ملخص قصة الايام الجزء الثاني للثانوية العامة
نعرض لكم متابعينا الكرام ملخص قصة الايام الجزء الثاني للأديب طه حسين للثانوية العامة، الملخص يشمل الجزء الثاني من قصة الايام من الفصل الأول إلى الفصل الحادي عشر.
من الجدير بالذكر أن التلخيص ستجده في صورة نقاط حتى يسهل فهمه واستيعابه بكل سهوله، ملخص قصة الايام الجزء الثاني للثانوية العامة إعداد استاذ احمد فتحي.
المحتويات
الفصل الأول من قصة الأيام: من البيت إلى الأزهر
عرض الأحداث :
1- انتقال الفتى للقاهرة :-
أقام فى القاهرة أسبوعين أو أكثر من أسبوعين ، لا يعرف من أمره إلا أنه ترك الريف وأنتقل إلى العاصمة ليطيل فيها المقام طالبآ للعلم مختلفآ إلى مجالس الدرس فى الأزهر ، وإلا أنه يقضى يومه فى أحد هذه الأطوار الثلاثة التى يتخيلها و لا يحققها .
2- الصبى يسكن بيتآ غريبآ ويسمع صوتآ غريبآ:-
فهو يسكن بيتآ غريبآ يسلك إليه طريقآ غريبة أيضا ، ينحرف إليها نحو اليمين إذا عاد من الأزهر ، فيدخل من باب يفتح أثناء النهار ويغلق فى الليل.
وتفتح فى وسطه فجوة ضيقة بعد أن تصلى العشاء . فإذا تجاوز هذا الباب أحس عن يمينه حرآ خفيفآ يبلغ صفحة وجهه اليمنى ، ودخانآ خفيفآ يداعب خياشيمه ، وأحس من شماله صوتآ غربيآ يبلغ سمعه ويثير فى نفسه شيئآ من العجب .
وقد ظل أيامآ يسمع هذا الصوت إذا عاد من الأزهر مصبحآ أو عاد منه ممسيآ ، يسمعه وينكره ويستحى أن يسأل عنه ثم فهم من بعض الحديث أنه قرقرة الشيشة يدخنها بعض تجار الحي ويهيئها صاحب القهوة التي كان ينبعث منها ذلك الحر الخفيف وذلك الدخان الرقيق
3- وصف الطريق إلى بيتة وعقباتها :-
فإذا مضى أمامه خطوات وجاوز ذلك المكان الرطب المسقوف الذى لم تكن تستقر فيه القدم لكثرة ما كان يصب فيه صاحب القهوة من الماء ، وخرج إلى طريق مكشوفة ولكنها ضيقة قذرة تنبعث منها روائح غريبة ومعقدة لا يكاد صاحبنا يحققها.
تنبعث هادئة بغيضة فى أول النهار وحين يقبل الليل ، و تنبعث شديدة عنيفة حين يتقدم النهار ويشتد حر الشمس .
وكان صاحبنا يمضى امامه فى هذه الطرق الضيقة ، وقلما كانت تستقيم له هذه الطريق . وما أكثر ما كان صاحبه ينحرف به ذات اليمين أو ذات الشمال ليجنبه عقبة قائمة هنا أو هناك فكان يسعى حينئذ مستعرضآ قد أدار وجهه نحو هذا البناء عن يمين أو ذلك البناء عن شمال.
حتي إذا جاوز هذه العقبة أستقبل الطريق كما بدأها ساعيآ أمامه فى خطا رفيقة قلقة ، تأخذ أنفه تلك الروائح المنكرة.
وتأخد أذنيه أصوات مختلطة مصطخبة تنحدر من عل وتصعد من أسفل ، وتنبعث من يمين وتنبعث من شمال وتلتقى كلها فى الجو ، فكأنما كانت تنعقد فتؤلف من فوق رأس الصبى سحابآ رقيقآ ولكنه متراكم قد غشى بعضه بعضا .
وكانت هذه الأصوات مختلفة أشد الأختلاف أصوات النساء يختصمن ، وأصوات الرجال يتنادون فى عنف ويتحدثون فى رفق
وأصوات الأثقال تحط وتعتل ، وأصوات السقاء يتغنى ببيع الماء وصوت الحوذى يزجرحماره أو بغله أو فريه ، وصوت العربة تئز عجلاتها أزا ، وربما شق هذا السحاب من الأصوات نهيق حمار أو صهيل فرس .
4- متاعب الصعود والنزول من السلم :-
وكان صاحبنا يمضى كل هذا مشرد النفس قد غفل أو كاد يغفل عن كل أمره حتى إذا بلغ من هذه الطريق مكانآ بعينه سمع أحاديث مختلطة تأتيه من باب قد فتح عن شماله فعرف أنه سينحرف بعد خطوة أو خطوتين إلى الشمال ليصعد فى السلم الذى سينتهى به حيث يقيم.
وكان هذا السلم متوسطآ ليس بشديد السعة ولا بشديد الضيق ، قد أتخذ درجة من الحجر ، ولكن كثر التصعيد فيه والهبوط منه ولم يتعهد بالغسيل ولا التنظيف ، فتراكم عليه تراب كثيف.
ثم أنعقد ولزم بعضه بعضا حتي أستخفى الحجر أستخفاء ، وخيل إلى المصعد فيه والهابط منه أنه إنما يتخذ سلمآ من الطين .
ومع أن الصبى كان كلفا بإحصاء الدرج كلما صعد فى سلم أو هبط منه ، فقد أقام ما شاء الله له أن يقيم فى ذلك المكان ، وصعد فى ذلك السلم وهبط منه ما شاء الله له أن يصعد أو يهبط ولم يخطر له قط أن يحصى درج هذا السلم.
5- الطبقة الأولى من بيته :-
وإنما علم بعد أن أتخذه مرتين أو مرات أنه إذا صعد منه درجات فلابد من أن ينحرف قليلآ نحو الشمال ليمضى فى التصعيد تاركآ عن يمينه فجوة لم يلجها قط.
ولكنه كان يعلم أنها تؤدى إلى الطبقة الأولى من ذلك البناء الذى أقام فيه أعوامآ طوالآ .كان يترك إذن عن يمينه مدخل تلك الطبقة من الطبقات التى لم يكن يسكنها طلاب العلم وإنما كان يسكنها أخلاط من العمال والباعة .
6- الطبقة الثانية من بيته :-
ويمضى مصعدآ حتى يبلغ الطبقة الثانية ، فلا يكاد يبلغها حتى تجد نفسه المكدودة شئءآ من الراحة يأتيه من الهواء الطلق الذى كان يبيح له التنفس بعد أن كاد يختنق فى ذلك السلم القذر ، وتأتيه من صوت تلك الببغاء التى كانت تصوت من غير إنقطاع.
كأنما تشهد الناس جميعآ على ظلم صاحبها الفارسى الذى سجنها فى ذلك القفص البغيض ، ليبيعها غدآ أو بعد غد لرجل أخر يسجنها فى قفص بغيض.
حتى إذا تخفف منها وقبض ثمنها نقدآ أشترى بدلها خليفة تقوم فى ذلك السجن مقامها وتدعو فيه دعاءها وتنتظر فيه مثل ما كانت تنتظر صاحبتها أن تنقل من يد إلى يد ومن قفص إلى قفص وأن ينتقل معها دعاؤها الحزين الذى يبتهج الناس به من مكان إلى مكان.
كان صاحبنا إذا بلغ أعلى السلم أستقبل الهواء الطلق بواجهه ودعاه صةت الببغاء إلى أن ينحرف نحو اليمين فيفعل ويمضى فى طريق ضيقة فيمر أمام بيتين يسكنهما رجلان من فارس أحدهما لا يزال شابآ.
والأخر قد تقدمت به السن .فى أحدهما شراسة وغلظة وأنقباض عن الناس ، وفى الأخر دعة ورقة وتبسيط للناس .
7- مكونات بيت الفتى :-
ثم يبلغ الصبى بيته فيدخل إلى غرفة هى أشبه بالدهليز ، قد تجمعت فيها المرافق المادية للبيت وهى تنتهى به إلى غرفة أخرى واسعة غير مستقيمة قد تجمعت فيها المرافق العقلية للبيت وهى على ذلك (غرفة النوم ، وغرفة الطعام ، وغرفة الحديث ، وغرفة السمر ، وغرفة القراءة ،والدرس ).
فيها الكتب وفيها بعض أدوات الشاى ، وفيها بعض رقائق الطعام وكان مجلس الصبى من هذه الغرفة معروفآ محدودآ كمجلسه من كل غرفة سكنها وأختلف إليها.
كان مجلسه عن شماله إذا دخل الغرفة ، يمضى خطوة أو خطوتين فيجد حصيرى قد بسط على الأرض ألقى عليه بساط قديم .هناك يجلس أثناء النهار وهناك ينام أثناء الليل.
تلقى له وسادة يضع عليها رأسه ولحاف يلتف فيه وكان يحاذى مجلسه من الغرفة مجلس أخيه الشيخ وهو ارقى فى مجلسه قليلآ أو كثيرآ حصير قد بسط على الأرض وألقى عليه بساط لا بأس به.
ثم ألقى على البساط فراش أخر من اللبد ثم ألقى من فوق هذا الفراش حشية طويلة عريضة من القطن ثم بسطت من فوقها ملاءة على هذه الحشية كان يجلس الفتى الشيخ وكان يجلس معه أصفياؤه ولم يكونوا يسندون ظهورهم إلى الحائط كما كان يفعل الصبى.
وأنما كانوا يسندونها إلى وسائد قد رصت على الحشية رصآ فإذا كان الليل أستحال هذا المجلس سريرآ ينام عليه الفتى الشيخ .
مهم :- مذكرة بلاغة للشهادة الثانوية 2017
الفصل الثانى من قصة الأيام: حب الصبى للأزهر
عرض الأحداث :
1- الأطوار الثلاثة لحياة الصبى فى الأزهر :-
الطور الأول : حياة الصبى فى غرفته :-
وكان هذا الطور احب اطوار حياته تلك إليه وأثرها عنده ، كان أحب إليه من طوره ذاك فى غرفته التى كان يشعر فيها بالغربة شعورآ قاسيآ ، لأنه لا يعرفها ولا يعرف مما أشتملته من الأثاث والمتاع إلا أقلة وأدناه إليه.
فهو لا يعيش فيها كما كان يعيش فى بيته الريفى وفى غرفاته وحجراته تلك التى لم يكن يجهل منها ومما أحتوت عليه شيئا ، وأنما كان يعيش فيها غريبآ عن الناس وغريبآ عن الأشياء وضيقآ حتى بذلك الهواء الثقيل الذى كان يتنفسه فلا يجد فيه راحة ولا حياة ، وإنما كان يجد فيه ألما وثقلآ .
الطور الثانى :الطريق بين بيته والأزهر :-
وكان أحب من طوره الثانى فى طريقه تلك بين البيت و الأزهر ، فقد كان فى ذلك الطور مشردآ مفرق النفس مضطرب الخطا ممتلئ القلب بهذه الحيرة المضلة الباهظة التى تفسد على المرء أمره وتجعله يتقدم أمامه لا على غير هدى فى طريقه المادية وحدها.
فقد كان ذلك محتومآ عليه _ بل على غير هدى فى طريقة المعنوية أيضآ ، فقد كان مصروفآ عن نفسه بما يرتفع حوله من الأصوات وما يضطرب حوله من الحركات.
وقد كان مستخذيآ فى نفسه من أضطراب خطاه وعجزه عن أن يلائم بين مشيته الضالة الحائرة الهادئة ومشية صاحبه المهتدية العارمة العنيفة .
الطور الثالث : الصبى فى الأزهر :-
فأما فى طوره الثالث هذا فقد كان يجد راحة وأمنا وطمأنينة وأستقرارآ . كان هذا النسيم الذى يترقرق فى صحن الأزهر حين تصلى الفجر يتلقى وجهه بالتحية فيملأ قلبه أمنآ وأملآ . وما كان يشبه وقع هذا النسيم على جبهته التى كانت تندى بالعرق من سرعة ما يسعى.
إلا بتلك القبلات التى كانت أمه تضعها على جبهته بين حين وحين ، أثناء أقامته فى الريف حين يقرئها أيات من القرآن أو يمتعها بقصة مما قرأ فى الكتاب فى أثناء عبثه فى الكتاب.
أو حين كان يخرج ضعيفى شاحبآ من خلوته تلك التى كان يتوسل فيها إلى الله ب(عدية يس) ليقضى هذه الحاجات أو تلك من حاجات الأسرة . كانت تلك القبلات تنعش قلبه وتشيع فى نفسه أمنآ وأملآ وحنانآ.
وكان ذلك النسيم الذى كان يتلقاه فى صحن الأزهر يشيع فى نفسه هذا كله ويرده إلى الراحة بعد التعب والهدوء بعد الأضطراب ، وإلى الأبتسام بعد العبوس ومع ذلك فلم يكن يعلم من أمر الأزهر شيئآ ، ولم يكن يعرف مما يحتويه الأزهر شيئآ وأنما كان يكفيه أن تمس قدميه الحافيتين أرض الحصن.
وأن يمس وجهه نسيم هذا الحصن ، وأن يحس الأزهر من حوله نائمآ يريد أن يستيقظ وهادئآ يريد أن ينشط ليعود إلى نفسه وإذا هو يشعر أنه فى وطنه وبين أهله لا يحس غربة ولا يجد ألمآ وأنما هى نفسه تتفتح من جميع أنحائها ، وقلبه يتشوق من جميع أقطاره ليتلقى.
ليتلقى ماذا ؟ ليتلقى شيئآ لم يكن يعرفه ، ولكنه كان يحبه ويدفع إليه دفعآ , طالما سمع أسمه وأراد أن يعرف ما وراء هذا الأسم ، وهو العلم .
2- شوقه إلى الغرق فى بحر العلم الذى لا ساحل له :-
وكان يشعر شعورآ غامضآ ولكنه قوى بأن هذا العلم لا حد له , وبأن الناس قد ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه ألا أيسره وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع أن يبلغ مهما كان فى نفسه يسيرآ.
وكان قد سمع من أبيه الشيخ ومن أصحابه الذين كانوا يجالسونه من أهل العلم أن العلم بحر لا ساحل له فلم يأخذ هذا الكلام على أنه تشبيه أو تجوز ، وأنما أخذه على أنه الحق كل الحق .
وأقبل إلى القاهرة وإلى الأزهر يريد أن يلقى نفسه فى هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقآ و أى موت احب إلى الرجل النبيل من هذا الموت الذى يأتيه من العلم ويأتيه وهو غرق فى العلم وكانت هذه الخواطر كلها تثور فى نفسه الناشئة فجأة.
فتملؤها وتملكها وتنسيها تلك الغرفة الموحشة وتلك الطريق الملتوية ، بل وتنسيها الريف ولذات الريف وتشعرها بأنها لم تكن مخطئة ولا غالية حين كانت تحترق شوقآ إلى الأزهر وضيقآ بالريف .
3- الأزهر بعد صلاة الفجر وخشوع ودروس علم :-
وكان الصبى يسعى أمامه مع صاحبه حتى يقطع الصحن ويصعد هذه الدرجة اليسيرة التى يبتدئ بها الأزهر نفسه ، فيمتلئ قلبه خشوعآ وخضوعآ وتمتلئ نفسه أكبارآ وإجلالآ ويخفف الخطو على هذه الحصر المبسوطة البالية التى كانت تنفرج أحيانآ عما تحتها من الأرض.
كأنها تريد أن تتيح لأقدام الساعين عليها شيئآ من البركة بلمس هذه الأرض المطهرة وكان الصبى يحب الأزهر فى هذه اللحظة حين ينفتل المصلون من صلاة الفجر وينصرفون.
وفى عيةنهم النعاس ليتحلقوا حول هذا العمود أو ذاك وينتظروا هذا الأستاذ أو ذاك فيسمعون منه درس (الحيث أو درس التفسير أو درس الأصول أ درس التوحيد) .
كان اأزرفى ذه اللحظة هادئآ لا ينعقد فيه لك الدوى اغريب الى كان يملؤه منذ تطلع الشمس إلى أن تصلى العشاء وإنما كانت تسمع فيه أحاديث يتهامس بها أصحابها وربما سمعت فتى يتلو القرآن فى صوت هادئ معتدل.
وربما مررت إلى جانب مصل لم يدرك الجماعة أو أدركها ولكنه مضى فى التنفل بعد أن أدى الفريضة وربما سمعت أستاذ هنا أو هناك يبدأ درسه بهذا الصوت الفاتر , صوت الذى أستيقظ من نومه فأدى صلاته ولم يطعم بعد شيئآ يبعث فى جسمه النشاط والقوة.
فهو يقول فى صوت هادئ حلو منكسر بعض الشئ (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، قال المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا بعلمه أمين.
4- الصبى يوازن بين أصوات الشيوخ بعد الفجر والظهر :-
والطلاب يسمعون لهذا الصوت فى هدوء وفتور يشبهان هدوء الشيخ وفتوره وما أكثر ما كان الصبى يوازن فى نفسه بين أصوات الشيوخ حين ينطقون بهذه الصيغة فى درس الفجر وأصواتهم حين ينطقون بها فى درس الظهر فأما أصوات الفجر.
فكانت فاترة حلوة فيها بقية من نوم وأما أصوات الظهر فكانت قوية عنيفة ممتلئة فيها شئ من كسل أيضآ، تصور أمتلاء البطون بما كانت تمتلئ به من صعام الأزهريين فى ذلك الوقت الذى كان الأزهريون يعيشون فيه على الفول والمخلل وما يشبه الفول والمخلل من ألوان الطعام.
وكان فى أصوات الفجر دعاء للمؤلفين يشبه الأستعطاف ، وكان فى أصوات الظهر هجوم على المؤلفين يوشك أن يكون عدوانآ وكانت هذه الموازنة تعجب الصبى وتثير فى نفسه لذة ومتاعآ .
5- درس فى الحديث وتشوق لدرس أصول الفقه :-
وكان يسعى مع صاحبه حتى يرقى هاتين الدرجتين اللتين يبتدئ بهما الأيوان ، وهناك إلى جانب عمود من هذه الأعمدة المباركة قد شد إليه كرسى بسلسلة غليظة يجلسه صاحبه أنتظر هنا فستسمع درسآ فى الحديث.
فإذا فرغت من درسى فسأعود إليك ، وكان درس صاحبه فى أصول الفقه ، وكان أستاذ صاحبه الشيخ راضى رحمه الله وكان الكتاب الذى يدرسه الشيخ راضى كتاب التحرير للكمال بن الهمام.
وكان الصبى يسمه هذه الألفاظ كلها فيمتلئ لها قلبه رهبآ ورغبآ ومهابة وإجلالآ ( أصول الفقه ) ما عسى أن يكون هذا العلم ؟ (الشيخ راضى ) من عسى أن يكون هذا الشيخ ؟ التحرير ما معنى هذه الكلمة ؟ الكمال بن الهمام !
ما أعظم هذين الأسمين حقآ أن العلم بحر لا ساحل له والخير كل الخير للرجل الذكى أن يغرق فيه وكان إجلال الصبى لهذا الدرس خاصة يزداد ويعظم من يوم إلى يوم حين كان يسمع أخاه و رفاقه يطالعون الدرس قبل حضوره فيقرءون كلامآ غريبآ.
ولكنه حلو الموقع فى النفس كان الصبى يسمعه فيتحرق شوقآ إلى أن تتقدم به السن ستة أعوام أو سبعة ليستطيع ان يفهمه أو يحل ألغازه ويفك رموزه.
ويتصرف فيه كما كان يتصرف فيه أولئك الشبان البارعون ، ويجادل فيه أساتذته كما كان يجادل فيه أولئك الشباب البارعون ، ولكنه الأن مضطر إلى أن يسمع ولا يفهم .
6- الجملة التى أرهقت تفكير الصبى(الحق هدم الهدم):-
وما كان أكثر أن يقلب فى نفسه هذه الجملة أو تلك لعله يجد وراءها شيئا فلا يظفر بطائل ، ولا يزيده ذلك إلا إكبارآ للعلم وإجلالآ للعلماء وإصغارآ لنفسه ، وإستعداد للعمل الجد .
وقد سمع جملة بعينها يشهد الله أنها أرقته غير ليلة من لياليه ونغصت عليه حياته غير يوم من أيامه ولعلها أن تكون صرفته عن غير درس من دروسه اليسيرة.
فقد كان يفهم دروسه الأولى من غير مشقه ، وكان ذلك يغريه بالأنصراف عن دروس الشيخ إلى التفكير فى بعض ما سمع من أولئك الشبان النجباء وكانت هذه الجملة التى ملأت نفسه وقلبه غريبة فى حقيقة الأمر ، وقعت على أذنه وهو فى أول النوم وأخر اليقظة.
فردته إلى اليقظة ليله كله وهى الحق هدم الهدم ما معنى هذا الكلام ؟ كيف يهدم الهدم ؟ وما عسى أن يكون هذا الهدم ؟
كيف يكون الهدم حقآ؟ وجعلت هذه الجملة تدور فى رأسه كما يدور هذيان الحمى فى رأس المريض حتى صرف عنها ذات يوم بإشكال من إشكالات الكفراوى أقبل عليه ففهمه وجادل فيه وأحس أنه بدأ يشرب من ذلك البحر الذى لا ساحل له وهو بحر العلم .
7_ الصبى لا يحب العنعنة فى رواية الحديث :-
وكان الصبى يجلس إلى جانب العمود ، يعبث بتلك السلسلة ، ويسمع للشيخ وهو يلقى دروسه فى الحديث فيفهم عنه فى وضوح وجلاء.
ولا ينكر منه إلا تلك الأسماء التى كانت تسقط على الطلبة يتبع بعضها بعضآ تسبقها كلمة حدثنا وتفصل بينها كلمة عن وكان الصبى لا يفهم هذه الأسماء ولا لتتبعها ولا لهذه العنعنة المملة وكان يتمنى أن تنقطع هذه العنعنة وأن يصل الشيخ إلى الحديث.
فإذا وصل إليه سمعه الصبى ملقيآ إليه نفسه كلها فحفظه وفهمه وأعرض عن تفسير الشيخ ، لأنه كان يذكره ما كان يسمع فى الريف من أمام المسجد ومن ذلك الشيخ الذى كان يعلمه أوليات الفقه .
8- ضوضاء أصوات الطلاب وشيوخهم :-
وبينما كان الشيخ يمضى فى دروسه كان الأزهر يستيقظ شيئآ فشيئآ كأنما كانت تنبهه أصوات أولئك الشيوخ الذين كانوا يلقون دروسهم ، وما كان يثور بينهم وبين طلابهم من حوار يبلغ العنف أحيانآ فهؤلاء اطلاب يقبلون وهذه الأصوات ترتفع.
وهذا الدوى ينعقد وهؤلاء الشيوخ تنعقد أصواتهم لتبلغ آذان التلاميذ بل هؤلاء الشيوخ يضطرون أن ينطقوا بهذه الصيغة التى تؤذن بإنتهاء الدرس وهى والله وأعلم لأن الطلاب قد أقبلوا ينتظرون درس الفقه من شيخ غير هذا الشيخ أو من الشيخ نفسه فلابد من أن ينتهى درس الفجر ليبدأ درس الصبح.
هنالك كان يقبل على الصبى صاحبه فيأخذه بيده فى غير كلام ويجذبه فى غير رفق ويمضى إلى مجلس أخر فيضعه فيه كما يضع المتاع وينصرف عنه وقد فهم الصبى أنه قد نقل إلى درس الفقه وانه سيسع هذا الدرس.
وسيفرغ منه وسينصرف الشيخ ويتفرق الطلاب ويبقى هو فى مكانه لا يتحول عنه حتى يعود اليه صاحبه من سيدنا الحسين.
حيث كان يسمع درس الفقه الذى كان يلقيه الشيخ بخيت رحمه الله وكان الشيخ بخيت يحب الأطالة فى الدرس وكان طلابه يلحون عليه فى الجدال فلم يكن يقطع درسه حتى يرتفع الضحى .
9- عودة الصبى مع صاحبه إلى البيت بعد درس الفقه :-
وهنالك يعود إلى الصبى صاحبه فيأخذه بيده فى غير كلام ويجذبه فى غير رفق ويمضى به حتى يخرجة من الأزهر وحتى يرده إلى طوره الثانى فيقطع به الطريق بين الأزهر والبيت.
ثم إلى طوره الأول فيلقيه فى مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم الذى ألقى على حصير بال عتيق ومنذ ذلك الوقت يتهيأ الصبى لاستقبال حظه من العذاب .
الفصل الثالث من قصة الأيام: وحدة الصبى فى غرفته\
عرض الأحداث :
1- الوحدة مصدر عذاب الصبى :-
وكانت الوحدة المتصلة مصدر ذلك العذاب فقد كان الصبى يستقر فى مجلسه من الغرفة قبيل العصر بقليل ثم ينصرف عنه أخوه فيذهب إلى غرفى أخرى من غرفات الربع عند أحد أصحابه وكان مجلس الجماعة لا يستقر فى غرفة بعينها من غرفاتهم وأنما هو عند أحدهم إذا أصبحوا.
وعند ثان منهم إذا أمسوا وعند ثالث منهم إذا تقدم الليل وكان أخو الصبى يتركه فى غرفته بعد درس الظهر ويذهب إلى حيث يلقى أصحابه فى إحدى الغرفات فينفقون وقتآ طويلآ أو قصيرآ فى شئ من الراحة والدعابة والتندر بالشيوخ والطلاب.
وكانت أصواتهم ترتفع وضحكاتهم تدوى فى الربع تدوية فتبلغ الصبى وهو جاثم فى مكانه فتبتسم لها شفتاه ويحزن لها قلبه لأنه لا يسمع.
كما كان يسمع فى الضحا م أثارها من فكاهة أو نادرة لأنه لا يستطيع كما كان يستطيع فى الضحا أن يشارك صامتآ بأبتسامة نحيلة ضيقة فى هذا الضحك الغليظ العريض .
2- القوم يجتمعون حول شاى العصر والصبى يتحسر :-
وكان الصبى يعلم أن القوم سيجتمعون حول شاى العصر إذا أرضو حاجتهم إلى الراحة والتندر بالشيوخ والزملاء وسيستأنفون حول هذا الشاى حديثآ هادئآ منتظمآ ثم يستعيدون ما يرون أن يستعيدوهمن درس الظهر مجادلين مناظرين.
ثم يعيدون درس المساء الذى يلقيه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فى كتاب دلائل الإعجاز فى بعض أيام الأسبوع وفى تفسير القرآن الكريم فى بعضها الأخر وسيتحدثون أثناء إعدادهم لهذا الدرس عن الأستاذ الإمام وسيستعدون ما كانوا يسمعون من نوادره.
وما كانوا يحفظون من رأيه فى الشيوخ ومن رأى الشيوخ فيه وما كانوا يحفظون من أجوبته التى كان يلقيها لبعض السائلين له والمعترضين عليه فيفحمهم ويضحك منهم زملاءهم الطلاب.
وكان الصبى لهذا كله محبآ وبه كلفآ وإليه مشوقآ ومتحرقآ وربما أحس الصبى فى دخيلة نفسه الحاجة إلى كوب من أكواب الشاى تلك التى تدار هناك فقد كان هو أيضآ قد كلف بالشاى وشعر بالحاجة إلى أن يشربه مصبحآ و ممسيآ وإلى أن يستكمل منه النصاب.
ولكنه حرم هذا كله فهؤلاء القوم يتندرون ويتناظرون ويدرسون ويشربون الشاى غير بعيد وهو لا يستطيع أن يشارك فى شئ من هذا ولا يستطيع أن يطلب إلى أخيه الإذن له بأن يحضر مجلس هؤلاء الشباب ، ويستمتع بما فيه من لذة العقل والجسم معآ .
3- الصبى يستحى من أن يسأل أحدآ :-
لا يستطيع أن يطلب ذلك ، فأبغض شئ إليه أن يطلب إلى أحد شيئآ ، ولو قد طلب ذلك إلى أخيه لرده عنه ردآ رفيقآ أو عنيفآ ولكنه مؤلم له مؤذ لنفسه على كل حال ، فالخير فى ان يملك على نفسه أمرها ويكتم حاجة عقله إلى العلم وحاجة أذنه إلى الحديث.
وحاجة جسمه إلى الشاى ، ويظل قابعآ فى مجلسه مطرقآ مغرقآ فى تفكيره ولكن كيف السبيل إلى ذلك.
وقد ترك أخوه باب الغرفة مفتوحآ إلى أقصى غايته وهذه أصوات القوم تبلغه ، وهذه ضحكاتهم تصل إليه، وهذه دقات مصمتة تنتهى إليه فتؤذيه بأن صاحب الشاى يحطم الخشب ليوقد النار وكل هذه الأصوات التى تنتهى إليه تثير فى نفسه من الرغبة والرهبة.
ومن الامل و اليأس ما يعنيه ويضنيه ويملأ قلبه بؤسآ وحزنآ ، ويزيد فب بؤسه وحزنه أنه لا يستطيع حتى أن يتحرك من مجلسه وأن يخطو هذه الخطوات القليلة التى تمكنه من أن يبلغ باب الغرفة ويقف أمامه.
حيث يكون أدنى إلى هذه الأصوات وأجدر أن يسمع ما تتحدث به القوم لقد كان ذلك خليقآ أن يسره ويسليه.
ولكنه لا يستطيع أن ينتقل من مكانه لا لأنه يجهل الطريق إلى الباب ، فقد كان حفظ هذه الطريق وكان يستطيع أن يقطعها متمهلآ مستأنيآ.
ولكن لأنه كان يستحى أن يفاجئه أحد المارة فيراه وهو يسعى متمهلآ مضطرب الخطا وكان يشفق أن يفاجئه أخوه الذى كان يلم بالغرفة من حين إلى حين ليأخذ كتابآ أو أداة أو لونأ من ألوان الطعام التى كانت تدخر ليتبلغ بها أثناء الشاى فى غير أوقات الإفطار أو العشاء .
4- آلام الصبى وحنينه إلى منزله بقريته :-
وكان كل شئ أهون على الصبى من أن يفجأه أخوه وهو يسعى مضطربآ حائرآ فيسأله ما حطبك ؟ وإلى أين تريد ؟
فكان إذن يرى الخير فى أن يبقى فى مكانه ويؤثر العافية ويردد فى نفسه تلك الحسرات اللاذعة التى كان يجدها ، وحسرات أخرى لم تكن أقل منها لذعآ وإيلامآ ، وحسرات الحنين إلى منزله ذلك فى قريته تلك من قرى الريف.
هناك حين كان يعود من الكتاب وقد أرضى حاجته إلى اللعب فيتبلغ بكسرة من الخبز المجفف مازحآ مع أخواته قاصآ على أمه ما أحب أن يقص عليها من أنباء يومه فى الكتاب فإذا بلغ من ذلك ما أراد خرج من الدار فأغلق الباب وراءه.
ثم مضى حتى يبلغ جدران البيت الذى كان يقوم امامه فلزمه ماضيآ نحو الجنوب ، حتى إذا بلغ مكانآ بعينه إنحرف إلى يمين ثم مضى أمامه خطوات حتى ينتهى إلى حانوت الشيخ محمد عبد الواحد وأخيه الشاب الحاج محمود.
فيجلس هناك متحدثآ متندرآ مستمعآ لما كان يقوله المشترون من الرجال والشتريات من النساء من هذه الأحاديث الريفية الساذجة التى تمتع بإختلافها وطرافتها وسذاجتها أيضآ وربما قل الطارئون على الحانوت من المشترين والمشتريات فخلا للصبى أحد صاحبى الحانوت.
وجعل يتحدث إليه أو يقرأ له فى كتاب من الكتب وربما عدل الصبى عن السعى إلى الحانوت وخرج من داره فجلس على المصطبة الملاصقة لها مطرقآ يسمع حديث أبيه الشيخ مع أصحابه فى مجلسهم ذاك الذى كان يعقدونه منذ تصلى العصر إلى أن يدعوهم مؤذن المغرب إلى العشاء.
وربما عدل الصبى عن الخروج من داره وخلا إلى رفيق من رفاقه فى الكتاب قد أقبل إليه ومعه هذا الكتاب أو ذاك من كتب الوعظ.
وهذه القصة أو تلك من قصص المغازى فجعل يقرأ له حتى يدعوه غروب الشمس إلى العشاء هنالك لم يكن الصبى يشعر بالوحدة ولم يكن يضطر إلى السكون ولم يكن يجد ألم الجوع ولم يكن يجد ألم الحرمان ولم يكن يتحرق إلى كوب من أكواب الشاى .
5- صوت الأذان يستدعى الذكريات للصبى :-
كانت كل هذه الحسرات تضطرب فى نفس الصبى أشد الضطراب ، وهو ساكن أشد السكون وربما صرفه عنها لحظة صوت المؤذن حين كان يدعو إلى صلاة العصر فى جامع بيبرس ولكنه كان صوتآ منكرآ أشد النكر.
فكان يذكر الصبى بصوت المؤذن فى بلده ولم يكن خيرآ من هذا الصوت ولكنه كثيرآ ما أتاح للصبى ألوانآ من اللهو واللعب فكم صعد المنارة مع المؤذن وكم أذن مكانه وكم شاركه فى هذا الدعاء الذى يدعى به بعد الأذان.
ولكنه هنا فى هذه الغرفة لا يستحب هذا الصوت ولا يستطيع أن يشارك فى الأذان ولا يعرف حتى من أين يأتى هذا الصوت وهو لم يدخل قط مسجد بيبرس وهو لا يعرف الطريق إلى مئذنته وهو لم يبل درج هذه المئذنة.
ولم يعرف أتستقم للمصعد وتتسع له أم تلتوى به وتضيق عليه كشأن مئذنته فى الريف لا يعرف شيئآ من ذلك ولا يل إلى أن يعرف منه شيئآ وأنما هو السكون والسكون المتصل الطويل يا للألم إن العلم ليكلف طلابه أهوالآ ثقالآ .
6- الصبى ونوم العصر :-
وكان هذا السكون يطول على الصبى فيجهده وربما أخذته إغفاءة وهو جالس فى مكانه وربما أشتدت عليه هذه الأغفاءة فأضطرته إلى أن يستلقى ويسلم نفسه للنوم وكان يسمع من أمه أن نوم العصر بغيض مؤذ للأجسام والنفوس.
ولكن كيف السبيل إلى أن يرد عن نفسه هذا النوم البغيض ولكنه يهب فذعآ مذعورآ فقد سمع صوتآ يدعوه بهذه الكلمة التى رنت فى آذانه أعوامآ مولانا أنام أنت ؟
7- أخوه يقدم له الطعام ويأكله إرضاء له :-
يهب فزعآ مذعورآ لأن أخاه أقبل ينظر إليه ويسأله عن شأنه ويحمل إليه عشاءه وكان عشاءه لذيذآ حقآ فقد كان يتألف من رغيف وقطع من الجبن الذى يسمى الجبن الرومى أو قطعة من الحلاوة الطحينية.
وكان هذا عشاءه فى أثناء الأسبوع فكان أخوه يضع ذلك أمامه ويودعه منصرفآ عنه ليذهب إلى الأزهر فيحضر درس الأستاذ الإمام وكان الصبى يقبل على طعامه راغبآ عنه حينآ وراغبآ فيه حينآ أخر.
ولكنه كان يستنفذه على كل حال كان يبيح لنفسه الإقلال من الطعام إذا أكل مع أخيه ولم يكن أخوه يكلمه فى ذلك أو يسأله عنه فأما إذا خلا إلى طعامه.
فقد كان يأتى عليه كله حتى لو رغب عنه أو ضاق به مخافة أن يبقى منه شيئآ ويعود أخوه ويرى ذلك خلفه فيظن به المرض أو يظن به الحزن وكان أبغض شئ إليه أن يثير فى نفس أخيه همآ أو قلقآ.
8- للظلمة وحشة وصوت يؤذية :-
كان إذان على طعامه حتى إذا فرغ منه عاد إلى سكونه وجموده فى ركنه الذي أض إليه ، وقد أخذ النهار ينصرم وأخذت الشمس تنحدر إلى مغربها وأخذ يتسرب إلى نفسه شعور شاحب هادئ حزن ثم يدعو مؤذن المغرب إلى الصلاة.
فيعرف الصبى أن الليل قد أقبل ويقدر فى نفسه أن الظلمة قد أخذت تكتنفه ويقدر فى نفسه أن لو كان معه فى الغرفة بعض المبصرين لأضئ المصباح ليطرد هذه الظلمة المتكاثفة ولكنه وحيد لا حاجة له إلى المصباح فيما يظن المبصرون.
وأن كان ليراهم مخطئين فى هذا الظن فقد كان ذلك الوقت يفرق تفرقة غامضة بين الظلمة والنور وكان يجد فى المصباح إذا أضئ جليسآ له ومؤنسآ وكان يجد فى الظلمة وحشة لعلها كانت تأتيه من عقله الناشئ.
ومن حسه المضطرب والغريب أنه كان يجد للظلمة صوتآ يبلغ أذنيه صوتآ متصلآ يشبه طنين البعوض لولا أنه غليظ ممتلئ وكان هذا الصوت يبلغ أذنيه فيؤذيهما ويبلغ قلبه فيملؤه روعآ وإذا هو مضطر إلى أن يغير جلسته فيجلش القرفصاء.
ويعتمد بمرفقيه على ركبتيه ويخفى رأسه بين يديه ، ويسلم نفسه لهذا الصوت الذى يأخذه من كل مكان ومع أن سكون العصر كان كثيرآ ما يضطره إلى النوم فقد كان سكون العشية يضطره إلى اليقظة التى لا تشبهها يقظة .
9- أصوات أخرى تفزع الصبى ويخاف أن يتحدث عنها :-
وكان ينتهى إلى أن يألف صوت الظلمة ويطمئن إليها ، ولكن فى الغرفة أصواتآ أخرى كانت تفزعه وتروعه أصوات مختلفة فقد كانت هذه الغرفة من غرفات الأوقاف ومعنى ذلك أنها كانت قديمة ، قد طال عليها العهد.
وبعد بها الأمد وكثرت فى جدرانها الشقوق وعمرت هذه الشقوق طوائف من الحشرات وغيرها من صغار الحيوان كأنما وكلت بالصبى إذا أقبل الليل عليه وهو قابع وحده فى ذلك الركن من أركان الغرفة فهى تبعث من الأصوات الضئيلة.
وتأتى من الحركات الخفيفة السريعة حينآ والبظيئة حينآ أخر ما يملأ قلب الصبى هلعآ ورعبآ ، فإذا أقبل أخوه وحده أو مع أصحابه فأضئ المصباح أنقطعت هذه الأصوات والحركات كأنها لم تكن.
وكان الصبى من أجل هذا ومن أجل أشياء أخرى غير هذا لا يجرؤ على أن يذكر من أمر هذه الأصوات والحركات شيئآ وأيسر ما كان يخاف أن تحدث ببغض ذلك أن يسفه رأيه وأن تظن بعقله وبشجاعته الظنون فكان يؤثر العافية ويكظم خوفه من الحشرات وصغار الحيوان .
10- أمل الصبى عند عودة أخيه :-
وهذا المؤذن يدعو إلى صلاة العشاء فيثير فى نفس الصبى أملآ قصيرآ يتبعه يأس طويل فقد أنتهى درس الأستاذ الإمام وسيقبل أخو الصبى بعد قليل فيضئ المصباح ويضع محفظته فى مكانها.
ويأخذ ما يحتاج إليه من كتاب أو أداة أو طعام ويشيع فى الغرفة فى أثناء ذلك شيئآ من الأنس ويطرد من الغرفة فى أثناء ذلك تلك الوحدة المنكرة ولكنه سيلقى إلى الصبى تلك الوسادة التى سيضع عليها رأسه وذلك اللحاف الذى سيلتف فيه لينام.
وسيشهد التفافه فى لحافه ووضع رأسه على وسادته ثم يطفئ المصباح وينصرف ويغلق الباب من ورائه ويدير فيه المفتاح ويمضى وهو يظن أنه أسلم الصبى إلى النوم وإن كان لم يسلمه إلا إلى أرق متصل مخيف وسيعود بعد ساعتين أو بعد ساعات.
وقد طعم وشرب الشاى وناظر أصحابه وأعد معهم ما شاء الله أن يعد من درس للغد فيدير المفتاح ثم يضئ المصباح وهو يظن أن الصبى مغرق فى نوم هادئ لذيذ وما ذاق الصبى فى حقيقة الأمر نومآ وأنما أنتظر جزعآ وفزعآ عودة أخيه .
11- الصبى يأمن وينام بعد نوم أخيه :-
فإذا أستلقى أخوه على فراشه بعد أن أطفأ مصباحه وأخذ تنفسه المضطرب أو المنتظم يدل على أنه نام فقد أخذ الصبى يحس الأمن والدعة ويدير فى نفسه خواطر الأمن الوادع وتفكير الهادئ المطمئن وهناك تتصل يقظته الآمنة بنومه اللذيذ دون أن يشعر بهذا الأتصال .
الفصل الرابع من قصة الأيام: الحاج على وشباب الأزهر
عرض الأحداث:
1- الصوتان الغريبان :-
ولكن صوتين غريبين يردانه فجأة إلى يقظة فزعة أحدهما صوت عصا غليظة تضرب الأرض ضربآ عنيفآ.
والأخر صوت إنسانى متهدج مضطرب لا هو بالغليظ ولا هو بالنحيف ، يذكر الله ويسبح بحمده ويمد ذكره وتسبيحه مدآ طويلآ غريبآ وقدسكن كل شئ وشمل هدوء الليل كل شئ وجعل هذا الصوت الإنسانى ينبعث بين حين وحين متهدجآ مرجعآ تقطعه ضربات العصا على الأرض.
وهو يبدو قويآ فيذيع فى الليل الهادئ شيئآ يشبه الأضطراب ثم يدنو قليلآ قليلآ حتى يكاد يبلغ غرفة الصبى ثم ينحرف ويضعف شيئآ فشيئآ حتى يكاد ينقطع ثم يبدو مرة أخرى قويآ متصلآ بعد أن يهبط صاحبه سلم الربع وأستقامت له طريقه فى الحارة ، ثم يبعد شيئآ فشيئآ حتى ينقطع .
2- خوف الصبى من الصوتين وجهله مصدرهما :-
وقد إرتاع الصبى لهذا الصوت أو لهذين الصوتين حين سمعهما لأول مرة ، وأتعب نفسه فى التفكير فيهما والبحث عن مصدرهما.
ولكنه لم يظفر من بحثه بطائل إلا أنه فقد النوم واتم ليله مؤرقآمروعآ حتى رد الأمن والطمأنينة إلى قلبه صوت المؤذن وهو ينادى الصلاة خير من النوم فهب الصبى مترفقآ وهب أخوه عنيفآ عجلآ.
وما هى إلا دقائق حتى كانا يهبطان السلم ويجدان فى طريقهما إلى الأزهر ليسمع أحدهما درس الأصول وليسمع الأخر درس الحديث.
وجعل هذان الصوتان يوقظان الصبى كل يوم فى أول الثلث الأخير من الليل وجعل الصبى يراع لهذين الصوتين ولا يعرف لهما مصدر ولا يجرؤ على أن يسأل أخاه أو غير أخيه عنهما.
حتى كانت ليلة الجمعة فأيقظه الصوتان وروعاه كدأبهما فى كل ليلة ورد المؤذن إليه الأمن والهدوء كدأبه فى كل صباح ولكن الصبى لم يهب مترفقآ.
ولكن أخاه لم يهب عجلآ عنيفآ ، فليس فى فجر الجمعة ولا فى صباحه دروس وليس الشيخ الفتى ولا الشيخ الصبى فى حاجة إلى أن يقطعا نومهما فأما نوم الصبى فقد قطعه الصوتان.
وأما أخوه فلم يسمعهما هذه الليلة كما لم يسمعهما من قبل ولبث الصبى فى فراشه ضيقآ بهذا السكون ، عاجزآ عن الحركة مشفقآ أن يوقظ أخاه حتى صليت الفجر وإنتشر ضوء الشمس ونفذت أشعتها إلى الغرفة فاترة.
وإذا الصبى يسمع هذين الصوتين مرة أخرى ولكنه يسمعهما هادئين رفيقين فأنما العصا فتداعب الأرض مداعبة يسيرة ، وأما الصوت فيصافح الهواء مصافحة حلوة لا تخلو من فتور .
3- الصبى يعجب للصوتين :-
والصبى يعجب لهذين الصوتين اللذين يعنفان حين يسكن الليل وينام الناس ويحسن الرفق واللذين يرقان ويلطفان حين ينشط النهار ويستيقظ الناس ويتاح للأصوات أن ترتفع.
وأن تأخذ حظها من الحرية والنشاط وهو مع ذلك مضطر إلى سكونه مشفق أن تحرك أن ينبه أخاه حتى تشتد حرارة الشمس على رأسه فيستوى جالسآ فى أناة ويتزحزح من مكانه فى رفق حتى يبلغ مكانآ لا تلتحفه حرارة الشمس فيستقر فيه دون أن يتحرك .
4- طرق على الباب بعصا غليظة وصوت ينادى :-
وهو بهذا الضيق وله كاره وعليه مكره وأخوه مغرق فى نومه لا يفيق ولكن الباب يطرق طرقآ عنيفآ وصوت من ورائه ينادى مرتفعآ ساخطآ صاخبآ.
(هلم يا هؤلاء أفيقوا إلى متى تنامون أعوذ بالله من الكفر أعوذ بالله من الضلال طلاب علم ينامون حتى يرتفع الضحى لا يؤدون الصلاة لوقتها هلم يا هؤلاء أعوذ بالله من الكفر أعوذ بالله من الضلال).
ويد هذا الصوت تقرع الباب وعصاه تقرع الأرض ومن حوله ضحكات ترافقه وقد هب الشيخ الفتى لأول نبأة ولكنه ظل فى مكانه ساكنآ ثابتآ يغرق فى ضحك مكتوم مكظوم كأنه يستحب ما يسمع ويستزيد منه ويريد أن يتصل .
5- الصبى يعرف مصدر الصوتين :-
فأما الصبى فقد عرف هذا الصوت وهذه العصا أنه الصوت الذى كان يضطرب فى الليل وأنها العصا لاتى كانت تقرع الأرض لتوقظها من نومها ، من عسى أن يكون هذا الرجل ؟ ما عسى أن تكون عصاه ؟ وما هذا الضحك الذى يتبعه ؟
وقد نهض القتى جاهرآ بضحكه فسعى إلى الباب ففتحه وإندفع منه هذا الرجل صاخبآ (أعوذ بالله من الكفر أععوذ بالله من الضلال اللهم إصرف عنا الأذى أعذنا من الشيطان الرجيم أمسلمون أنتم أم كفارأتتعلمون على شيوخكم هدى أم ضلالآ)
وقد إندفع معه الشباب من أصحاب الفتى وهم يجارون بالضحك ويغرقون فيه وهناك عرف الصبى هذا الرجل وهو عمى الحاج على .
6- صفات الحاج على :-
وكان عمى الحاج على رجل شيخآ قد تقدمت به السن حتى جاوز السبعين ولكنه أحتفظ بقوته كلها أحتفظ بقوة عقله فهو ماكر ماهر ظريف لبق وأحتفظ بقوة جسمه فهو معتدل القامة شديد النشاط متين البنية.
عنيف إذا تحرك عنيف إذا تكلم لا يعرف الهمس ولا يحسن أن يخافت صوته وأنما هو صائح دائمآ وكان عمى الحاج على فيما مضى من دهره كما علم الصبى فيما بعد رجلآ تاجرآ قد ولد فى الإسكندرية وشب فيها وأحتفظ بما لأهل الإسكندرية من قوة وعنف.
ومن صراحة وظرف وكان يتجر فى الأرز ومن أجل ذلك سمى عمى على الرزاز فلما تقدمت به السن أعرض عن التجارة أو أعرضت التجارة عنه.
وكان له بيت فى القاهرة يغل عليه شيئآ من مال فأتخذ لنفسه غرفة فى هذا الربع الذى لم يكن يسكنه من غير المجاورين ألا هذا الرجل وهذان الفارسيان اللذان ذكرا فى بعض هذا الحديث .
7- علاقة الحاج على بشباب الأزهر :-
ولم يكد عمى الحاج على يستقر عى غرفته فى أخر الربع عن شمال إذا صعدت السلم حتى لفت إليه هؤلاء الشباب من طلاب العلم أضحكهم وراقوه فإتصلت بينه وبينهم مودة حلوة متينة نقية فيها ظرف كثير وفيها رقة تحفظ يؤثران فى القلوب حقآ.
فقد كان الشيخ يعرف من هؤلاء الشباب حبهم للعلم وجدهم فى الدرس وصدوفهم عن العبث كان يحب منهم ذلك.
فإذا بدأ أسبوع العمل لم يسع إليهم ولم يعرض لهم حتى كأنه لا يعرفهم إلا أن يسعوا هم إليه أو يلحوا هم عليه فى أن يشهد معهم طعامآ أو يشاركهم فى الشاى.
فإذا كان يوم الجمعة لم يمهلهم ولم يخل بينهم وبين أنفسهم وإنما إنتظر بهم حتى يتقدم النهار وحتى يعلم أنهم قد أرضوا نفوسهم من النوم والراحة ، هناك يخرج من غرفته فيبدأ بأقرب غرف الشباب إليه فيوقظ صاحبها فى هذا العنف والضجيج اللذين رأيتهما.
ثم ينتقل إلى الغرفة التى تليها ومعغه صاحبه الذى أيقظع ، وما يزال كذلك حتى يبلغ غرفة أخى الصبى فيوقظه على هذا النحو والشباب من حوله فرحون مرحون يستقبلون يوم راحتهم مبتهجين قد إبتسموا للحياة وإبتسمت لهم الحياة.
وإلى هذا الشيخ كان تدبير طعامهم ولهوهم البرئ فى يوم الجمعة فهو الذى يقترح عليهم طعام الإفطار وقد يعده لهم فى غرفته أو فى غرفة أحدهم وهو الذى يقترح عليهم طعام العشاء ويشير عليهم بما ينبغى أن يصنعوا لإعداده ويشرف على هذا الإعداد ويقوم منه ما يمكن أن يعوج يصحبهم صباحهم.
ثم يفارقهم ليصلى الجمعة ثم يصحبهم حتى إذا وجبت العصر فارقهم لحظة ثم يعود إليهم فيشاركهم فى عشائهم وفيما يكون بعده من الشاى ثم إذا وجبت المغرب أمهم فى صلاتهم فإذا وجبت العشاء فارقهم ليعدو الدروس التى سيسمعونها من الغد .
8- الحاج على يتكلف التقوى ويتتبع عورات الناس ويغتابهم:-
كان عمى الحاج على يتكلف التقوى والورع ويظهر ذلك إلى أقصى ما يظهر الناس تكلفهم وتصنعهم يبدأ بهذه الغزوة التى يجددها فى الثلث الأخير من كل ليلة فيخرج من غرفته صاخبآ صائحآ بذكر الله والتسبيح بحمده ضاربآ الأرض بعصاه حتى يبلغ مسجد سيدنا الحسين.
فيقرأ فيه ورد السحر ويشهد فيه صلاة الفجر ثم يرجعى متمتمآ مهمهمآ مداعبآ الأرض بعصاه فيستريح فى غرفته فإذا وجبت الصلوات أداها فى غرفته وقد فتح بابها وجهر بالقراءة والتكبير ليسمعه أهل الربع جميعآ.
فإذا خلا إلى أصحابه الشباب على طعامهم أو على شايهم أو فى بعض سمرهم فهو أسرع الناس خاطرآ وأظرفهم نكتو وأطولهم لسانآ وأخفهم دعابة وأشدهم تتبعآ لعيوب الناس وأعظمهم أغراقآ فى الغيبة لا يتحفظ فى لفظ ولا يتحرج من كلمة نابية.
ولا يتردد فى أن يجرى على لسانه المنطلق دائمآ بصوته المرتفع دائمآ أشنع الألفاظ وأشدها إغراقآ فى البذاء وأدلها على أبشع المعانى وأقبح الصور .
9- توطد الحب بين الحاج على والشباب :-
وكان أولئك الشباب يحبونه على ذلك أو يحبونه من أجل ذلك أوقل أنهم يحبون ذلك منه أشد الحب ويكلفون به أعظم الكلف كأنه كان يخرجهم من أطوارهم ويريحهم من جد العلم والدرس.
ويفتح لهم باب من اللهو ما كانوا يستطيعون أن يلجوه حين كانوا يخلون إلى أنفسهم بل ما كانوا يستطيعون أن يسمعون يلجوه حين كانوا يلتفون حول هذا الرجل الشيخ وحين كان يصب عليهم هراءه هذا بغير حساب كانوا يسمعون ذلك منه.
ويضحكون له حتى إن جنوبهم تكاد تنقد من الضحك ولكنهم على ذلك لم يكونوا يعيدون على الشيخ كلمة من كلماته البذيئة أو لفظآ من ألفاظة النابية.
فكأنما كانوا يرون شيئآ يعجبهم ويلهيهم فيستمتعون به من بعيد ولا يبيحون لأنفسهم أو لا تبيح لهم ظروفهم أن يدنوا منه أو يسعوا إليه ولم يكن ذلك يدل على أقل من هذه الصفة الغريبة الخليقة بالإعجاب والرحمة معآ والتى كان هؤلاء الشباب يمتزون بها عن كثير من زملائهم وأقرانهم.
وهى كظم الشهوات وأخذ النفس بألوان من الشدة تمكنهم من المضى فى الدرس على وجهه وتردهم عن التورط فيما كان كثير من زملائهم يتورطون فيه من هذا العبث السهل الذى يفل الجد.
ويفتر العزائم ويفسد الأخلاق وكان الصبى يسمع لهذا كله فيفهم ويحفظ ويعجب ويسأل نفسه كيف يجتمع طلاب العلم.
وما يحتاج إليه من الجد مع هذا التهالك على الهزل والتساقط على السخف فى غير تحفظ ولا أحتياط وكان يعاهد نفسه على انه إذا شب وبلغ طور هؤلاء الطلاب الذين يكبرهم ويقدر ذكاءهم فلن يسير سيرتهم ولن يتهالك على العبث كما يتهالكون عليه .
10- يوم الجمعة يوم البطون :-
وكان يوم الجمعة يوم البطون فى حياة هؤلاء الطلاب وفى حياة صديقهم الشيخ فكانوا إذا أصبحوا أجتمعوا إلى إفطار غزير دسم صاخب قوامه الفول والبيض ثم الشاى وما كانوا قد أدخروا من هذه الفطائر الجافة التى كانت أمهتهم يزودونهم بها ويضعن فى صنعها.
وفى تعبئتها قلوبهن الساذجة وما يملؤها من حب وعطف وحنان وكم ذكر الصبى جهد أبيه فى كسب ما لم يكن بد من كسبه من النقد لتستطيع أمه أن تهيئ لأبنيها زادهما وجد أمه فى صنع هذا الزاد وتكلفها الفرح وهى تهيئه وحزنها الصامت.
وهى تعبئه ودموعها المنهمرة وهى تسلم أحماله إلى من سيذهب به إلى القطار كم ذكر الصبى هذا كله حين كان هؤلاء الشباب يلتهمون هذا الزاد التهامآ يغمسونه فى الشاى كما كان يوصيهم الشيخ أو يقضمونه بأسنانهم وأضرسهم قضمآ.
ثم يعبون فى أكواب الشاى ليبلوه فى أفواههم حلوقهم بعد ذلك كان سهلآ هنيآ وهم فى أثناء ذلك يتضاحكون من دعابة الشيخ وفكاهته لا يذكرون آباءهم وما جدوا.
ولا يذكرون أمهاتهم وما أحتملن من كد ، وما ذرفن من دموع وكان الشيخ وأصدقاؤه الطلاب يدبرون عشاءهم أثناء الدورة الثانية والثالثة من الشاى الذى يقبلون عليه بعد الإفطار .
11- إشتراك الجميع فى طعام يعده طاه ماهر :-
وكان تدبيرهم لهذا العشاء يقبض نفس الصبى ويملؤها خجلآ فلما فكر فيه بعد أن تقدمت به السن وجد لذكراه حنانآ وإعجابآ كانوا يتداولون ويتشاورون ولم يكن ميدان مداولاتهم ومشاوراتهم واسعآ ولا عريضآ.
وإنما هما لونان من ألوان الطعام لم يشذوا عنهما قط فإما البطاطس فى خليط من اللحم والطماطم والبصل وإما القرع فى خليط من اللحم والطماطم والبصل وشئ من الحمص وكانوا يتفقون على أقدار ما يشترون من هذه الأصناف كلها ثم يقدرون ثمن ما سيشترون.
ثم يخرج كل من حصته من هذا الثمن إلا الشيخ فكانوا يخرجونه من هذه الغرامة فإذا أجتمع لهم ما يحتاجون من نقد ذهب أحدهم فإشترى لهم طعامهم.
فإذا عاد بما أشترى نهض أحدهم إلى موقده فأوقد فيه ناره من هذا الفحم البلدى حتى إذا صفت جذوته أقبل على الطعام يهيئه وأصحابه ينظرون إليه مجتمعين أو متفرقين والشيخ يلقى إليه نصائحه بين حين وحين حتى إذا تم له من تهيئة الطعام ما أراد خلى بينه وبين هذه النار تنضجه على مهل.
وإجتمع القوم إلى صديقهم الشيخ يعبثون أو إلى أنفسهم يدرسون وطاهيهم يخطف نفسه بين حين وحين ليلقى نظرة على هذا الطعام مخافة على أن يحترق أو يفسد وليلقى عليع بين حين وحين قطرات من ماء وكلهم يتنسم هذه الرائحة الذكية التى تبعثها النار من هذا الطعام كلما تقدمت به الأنضاج .
12- رائحة الطعام يتلذذ بها غير القادرين :-
وكلهم يجد فى تنسم هذه الرائحة مقدمة لذيذة لعشاء لذيذ ومن المحقق أنهم لم يكونوا وحدهم يصطنعون هذا الطعام وأنما كان لهم فى الربع زملاء يصطنعون مثلهم ويشمون رائحته مثلهم.
ومن المحقق لهم أيضآ أنه قد كان لهم فى الربع زملاء تقصر بهم ذات أيديهم عن أن يصنعوا لأنفسهم من الطعام مثل ما كانوا يصنعون.
ومن المحقق أيضآ أن هؤلاء العمال الذين كانوا يسكنون الدور السفلى من الربع كانت تقصر بهم ذات أيديهم عن أن يطرفوا أنفسهم وأبناءهم ونساءهم بمثل هذا الطعام وأكبر الظن أنهم كانوا يجدون من نسائهم لهذا الحرمان هماآ ثقيلآ.
وأكبر الظن أن هؤلاء المحرومين من الطلاب والعمال كانوا يجدون فى هذه الروائح التى كانت تملأ الربع يوم الجمعة لذة مؤلمة أو أمآ لذيذآ .
13- الحاج على يقسم الطعام بالعدل ويمنع التعدى أى أحد :-
كنت نار ها افحم البلدى بطيئة طويلة البال فان ذلك يطيل لذة قوم ويمد ألم آخرين حتى إذا صليت العصر ودعيت الس إلى الغوب كان اطعام قد نضج فأتمع القوم حول مائدتهم وأقلوا على طعمهم فى نشاط يشبه الجد الهازل أو الهزل الجاد كلهم حريص على أن يستوفى حظه من هذا الطعام.
وكلهم يراقب أصحابه أن يسبقوه أو ينشطوا عليه وكلهم يستحى أن يظهر هذا الحرص أو يبدى هذه المراقبة ولكن الشيخ معهم فصراحته تغنى عن صراحتهم ةهرله يفضح ما أسروا من الجد فهو يراقبهم جميعآ.
وهو يقسم الطعام بينهم بالعدل وهو يصد أحدهم أن هم أن يجور على أصحابه ولا يخفى ذلك ولا يتحفظ فيه وأنما يعلنه صاخبآ كعادته منبهآ هذا على أنه يخدع نفسه عن قطعة البطاطس بقطع اللحم ومنبهآ ذاك إلى أنه يسرف على نفسه.
وعلى أصحابه بما يغترف فى لقمته الغليظة من جامد الطعام أو سائله مرسلآ ألفاظة إلى هذا وذاك فى هزل يخف على أسماعهم ويحسن موقعه من نفوسهم ويضحكهم ولا يؤذيهم فيما ينبغى لهم من الحياء .
14- الصبى مضطرب فى معركة الطعام الضاحكة :-
والصبى فى أثناء هذه المعركة الضاحكة خجل وجل مضطرب النفس مضطرب حركة اليد لا يحسن أن يقتطع لقمته ولا يحسن أن يضعها فى الطبق ولا يحسن أن يبلغ بها فمه.
ويخيل إلى نفسه أن عيون القوم جميعآ تلحظه وأن عين الشيخ خاصة ترمقه فى خفيه فيزيده هذا إضطرابآ وإذا يده ترتعش إذا بالمرق يتقاطر على ثوبه وهو يعرف ذلك ويألم له ولا يحسن أن يتقيه وأكبر الظن بل المحقق أن القوم كانوا فى شغل عنه بأنفسهم.
وآية ذلك أنهم يفكرون فيه ويلتفتون إليه ويحرضونه على أن يأكل ويقدمونإليه ما لا تبلغه يده فلا يزيده ذلك إلا إضطرابآ وإختلاطآ وإذا هذه المعركة الضاحكة مصدر أللم لنفسه وحزن لقلبه وكانت خليقة أن تسره وأن تضحكه.
ولكنها إن آذته فى أثناء الطعام فقد كانت تسره وتسليه وتضطره أحيانآ إلى أن يضحك وحده إذا خلا إلى نفسه بعد أن يشرب الجماعة شايهم وينتقلون إلى حيث يدرسون أو يسمرون.
وكذلك أنفق هؤلاء الشباب أعوامآ طويلة مع هذا الشيخ وشب الصبى فى هذه الحياة الضاحكة بفضل الشيخ على على الرغم من ما كان يعترض طريقة من أسباب الألم والأسى .
15- تفرق الجماعة فى أطراف المدينة :-
ثم تفرقت الجماعة وذهب كل هؤلاء الشباب لوجهه وتركوا الربع وإستقروا فى أطراف متباعدة من المدينة وقلت زيارتهم للشيخ ثم أنقطعت ثم تناسوه ثم نسوه .
16- وفاة الحاج على رحمه الله :-
وفى ذات يوم حمل إلى أفراد هذه الجماعة نعى الشيخ فحزنت قلوبهم ولم يصل الحزن إلى عيونهم ولم يرسم آيات على وجوههم وأخبر المخبر الصادق أن أخر كلمة نطق بها الشيخ.
وهو يحتضر إنما كانت دعاءه لأخى الصبى فرحم الله عمى الحاج عليآ لقد كان ظله على الصبى ثقيلآ وإن ذكره ليملأ قلبه بعد ذلك رحمة وحنانآ .
الفصل الخامس من قصة الأيام: الإمام محمد عبده والأزهر
عرض الأحداث :
1- الغرفة مصدر الفكاهة وسمات ساكنها :-
وغرفة أخرى من غرفات هذا الربع كانت تقوم فيه غير بعيد عن شمالك إذا صعدت السلم وكانت مصدر فكاهة ودعابة ولهو لهؤلاء الشباب أيضآ كان يسكنها شاب لعله أكبر من هؤلاء الطلاب شيئآ وقد كان أقدم منهم عهدآ بالأزهر ولكنه كان من جيلهم ومن طبقتهم على كل حال كان نحيف الصوت يكفى أن تسمعه لتضحك من صوته وكان ضيق العقل لم يأذن الله للون من ألوان العلم أن يستقر فى رأسه لأن عقله كان محدودآ محصورآ وكان قصير الذكاء لم يأذن الله لذهنه أن ينفذ إلى أقرب شئ وراء ما كان يقرأ فى الكتب على إختلافها وكان مع ذلك واسع الثقة بنفسه بعيد الطمع فى مستقبله مطمئنآ فى غير تكلف إلا أنه كان كأصحابه هؤلاء الذين يعيش معهم ويشاركهم فى أكثر ما يختلون إليه من الدروس كان يشهد معهم (درس الفقه و درس البلاغة ودرس الأستاذ الأمام )، ولم يكن يخف لدرس الأصول لأن هذا الدرس كان يقتضيه أن يخرج من غرفته مع الفجر وقد كان لراحته مؤثرآ وبها ضنينآ وكان يشارك أصحابه فى بعض مطالعتهم وكان يشاركهم بنوع خاص فى هذه المطالعات التى لا تتصل بالدروس المنظمة ولا بالكتب التى كان الشيوخ يقرءونها .
2- الشبان يضيقون بكتب الأزهر :-
فقد كان هؤلاء الشباب يضيقون بكتب الأزهر ضيقآ شديدآ ، يتأثرون فى ذلك برأى
أستاذهم الإمام فى كتب الأزهر ومناهجه وكانوا يسمعون من الأستاذ الإمام حين يشهدوندرسه أو حين يزورونه فى داره أسماء كتب قيمة فى (النحو والبلاغة والتحيد أيضآ)، وكانت هذه الكتب القيمة بغيضة إلى شيوخ الأزهر لأنهم لم يألفوها وربما أشتد بغضهم لهذه الكتب لأن الأستاذ الإمام قد دل عليها ونوه بها ، وكان الذين ينافسون الأستاذ الإمام من الشيوخ الأعلام يحاولون أن يذهبوا مذهبه فيدلون طلابهم على كتب قيمه أخرى لا تقرأ فى الأزهر ، لأن الأزهريين لم يألفو قراءتها وكان هؤلاء الطلاب لا يكادون يسمعون أسم كتاب من هذه الكتب حتى يسرعوا إلى شرائه إن وسعهم ذلك ، وربما كلفوا أنفسهم فى هذا الشراء جهدآ ثقيلآ وحرمانآ شديدآ ، فإن أعياهم ذلك أستعاروه من مكتبة الأزهر ، ثم أقبلو عليه ينظرون فيه ثم إتفقوا على أن يقرءوه جماعة ويتعاونوا على فهمه.
3- الشبان يفخرون على تلمذتهم على الإمام :-
كان يدفعهم إلى ذلك حبهم الصادق للأستاذ الإمام ورغبتهم الصادقة فى العلم والأطلاع وربما دفعهم إلى ذلك مع هذه العاطفة شئ من غرور الشاب فقد كانوا يفتخرون بتلمذتهم للأستاذ الإمام وللشيخ بخيت وللشيخ أبى خطوة وللشيخ راضى كانوا يملأون أفواههم بأنهم تلاميذ هؤلاء الأئمة و بأنهم من تلاميذهم المقربين والمصطفين ، ولم يكونوا يكتنفون بالأختلاف إلى هؤلاء الشيوخ فى دروسهم وأنما كانوا يزورون شيوخهم فى بيوتهم ، وربما يشاركوهم فى بعض البحث وربما أستمعوا منهم دروسآ خاصة فى يوم الخميس بعد أن تصلى الظهر أو بعد أن أن تصلى العشاء وكانوا لا يكرهون أن يعرف عنهم زملاؤهم هذا كله وأن يتحدث عنهم زملاؤهم بأنهم يقرءون فيما بينهم هذا الكتاب أو ذالك فى هذا الفن أو ذاك وكانوا قد وصلوا بهذا كله إلى شئ ظاهر من الأمتياز بين زملائهم حتى عرفوا فى الأزهر كله بأنهم أنجب طلاب الأزهر وأخلقهم بالمستقبل السعيد فكان من المعقول أن يسعى إليهم الأوساط من زملائهم يلتمسون التفوق فى الأتصال بهم والأمتياز حين يعرف الناس أنهم من أصدقائهم وأصفيائهم ويلتمسون بذلك الوسيلة إلى أن يتصلوا بكبار الشيوخ وأئمة الأساتذة وكان صاحبنا من هؤلاء الطلاب الأوساط قد أتصل بهذه الجماعة من الطلاب ليقول زملاؤه أنه واحد منهم وليستطيع بحكم هذه الصلة أن يصحبهم فى زياراتهم للأستاذ الإمام والشيخ بخيت .
4- ساكن الغرفة يتقرب إلى الطلاب النجباء من شبان الأزهر :-
وكان غرور الشباب يحبب إلى هذه الجماعة هذا النوع من الأمتياز ، ويهون عليها قبول هؤلاء الطفيليين فى العلم من ضعاف الطلاب وأوساطهم ثم يتيح لهم بعد ذلك حين يخلون إلى أنفسهم وقد أحصوا على هؤلاء الزملاء جهالتهم وسخافاتهم وأغلاطهم الشنيعة ، أن يعيدوا ذلك ويضحكوا منه ملء أفواههم وملء جنوبهم أيضآ وأكبر الظن أن صاحبهم هذا قد عرفهم فى بعض الدروس فمازال يدنى نفسه منهم حتى أتصل بهم فزارهم ثم أعجبه ربعهم وأعجبه جواره لهم فى هذا الربع فأتخذ فيه غرفة وأصبح واحدآ منهم يشاركهم فى الدرس ويشاركهم فى الشاى ويشاركهم فى الزيارات ويشاركهم فى بعض الشهرة ، ولكن الله لم يفتح عليه قط بأن يشاركهم فى العلم والفهم وفى الأبانة والأيضاح ويظهر أنه كان أوسع منهم يدا وأكثر منهم مالآ ، أو قل أنه كان يقتر على نفسه إذا خلا إليهم فإذا أتصل بأصحابه يسر على نسه وأنفق عن سعة وربما كان يشعر بحاجتهم إلى النقد لشراء كتاب أو لأداء دين عاجل أو لإرضاء حاجة ملحة فبقدم إليهم من ذلك ما يريدون رفيقآ بهم متلطفآ لهم وكانوا يعرفون ذلك له ويحمدونه ، ولكنهم لم يكونوا يطيقون جهله وربما لم يملكوا أنفسهم فضحكوا من هذا الجهل بمحضر منه وردوا عليه سخفه ردآ عنيفآ ، فيه كثير من الأزدراء القاسى ولكنه كان يقبل ذلك راضيآ ، ويتلقاه باسمآ وما أظن أنهم قد عرفوا فى وجهه الغضب يومآ على كثرة ما كانوا يثقلون عليه بالغض منه والأزدراء له .
5- ساكن الغرفة وعلم العروض :-
وكان أجمل ما يتندرون به عليه علمه بالعروض أو جهله بالعروض فكلاهما سواء كان يطاع معهم كتابآ فى النحو فلا يكاد يعرض لهم شاهد وما أكثر ما تعرض الشواهد فى كتب النحو حتى يكون أسرعهم إلى رد هذا الشاهد إلى بحر من أبحر العروض ولم يكن يختلف قط وإنما كان البسيط دائمآ وقد يكون البيت من الطويل وقد يكون من الوافر وقد يكون من أى بحر من أبحر الشعر ولكنه كان بسيط دائمآ والغريب أنه لم يكتفى بالإسراع إلى إعلان أن هذا البيت من البسيط وإنما كان يسرع فيأخذ فى تقطيع البيت يرده إلى البسيط مهما كان وزنه فيقطع على الجماعة وزنهم فيقطع على الجماعة درسهم ويدفعهم إلى بحر من الضحك لا يكاد يعرف له حد وقد كثر منه ذلك حتى أغرى به أصحابه وأطمعهم فيه فكانوا كلما عرضوا بيت من الشعر أظهروا العجز عن رده إلى وزنه حتى ينبئهم صاحبهم بأنه من البسيط فإذا فعل أظهرو العجز عن تقطيع البيت حتى يأخذ صاحبهم فى تقطيعه فيرده إلى البسيط وهناك يستأنفون الضحك ، ويستأنفون الأستهزاء ويلقاهم هو بهذه الأبتسامة الراضية التى لا تعرف الغضب ولا الغيظ .
6- ساكن الغرفة يترك الطلاب النجباء ويحاول أن يشارك الصبى :-
وقد أقام هذا الشاب على ذلك مع أصدقائه أعوامآ طوالآ لم يغاضبهم ولم يغاضبوه وكأنه أحس أخر الأمر أنه ليس من تلك الحلبة وأه لا يستطيع أن يجرى فى ذلك الميدان فأخذ يتخلف قليلآ قليلآ عن الدروس ويتكلف التعلات والمعاذير ، لا يشارك القوم فى مطالعتهم ويكتفى بالمشاركة فى الشاى والطعام أحيانآ والزيارات دائمآ وقد تقدمت السن بالصبى فى أثناء ذلك وتقدم به الدرس أيضآ وإذا هذا الشاب يظهر العطفعليه والقدر له وإذا هو يعرض عليه أن يقرأ معه الكتب ويعرض عن مشاركة أقرانه وأنداده إلى مشاركة هذا الغلام الناشئ ، ويأخذ الغلام فى أن يقرأ معه كتبآ فى الحيث وأخرى فى المنطق وأخر فى التوحيد ولكنه لا يجد عنده غناء وليس الغلام فارغآ للضحك منه والتندر به وليس هو قادرآ على ذلك أو راغبآ فيه وإذا هو يحتال فى التخلص منه والمضى لشأنه .
7- إرتقاء حياة الشاب وأتصاله بطبقة الأثرياء مع أصحابه :-
وإذا هذا الرجل يترك العلم أو يتركه العلم ولكنه يظل محسوبآ على الأزهر طالبآ فيه مشاركآ لأصحابه فى الناحية الأجتماعية من حياتهم وقد أرتقت حياتهم بعض الشئ رقاها ذكاؤهم وتفوقهم ورضا الأستاذ الإمام عنهم وتقربه إياهم ، وإذاهم يتصلون بفلان وفلان من أبناء الأسر الغنية الثرية الذين كانوا يطلبون العلم فى الأزهر إذ ذاك وإذا الزيارات تتصل بينهم وبين هؤلاء الشبان الأغنياء الأثرياء وصاحبهم معهم يزور ويزور وترتقى حياته الأجتماعية كما أرتقت حياة أصحابه لا يحسون هذا الأرتقاء ولا يكادون يشعرون به وهم إذن لا يتحدثون به ولا يتمدحون بزيارتهم لتلك البيوت الممتازة وجلوسهم إلى أصحابهم النابهين وإنما يرون ذلك شيئآ طبيعيآ مألوفآ فأما صاحبهم هو الذى يراه المجد كل المجد ويستمد منه الغبطة كل الغبطة والغرور كل الغرور ويستغله لبعض منافعه المادية أحيانآ ويتحدث به دائمآ إلى من أراد أن يسمع له ومن لم يرد وتمضى الأيام ويتفرق هؤلاء الطلاب وقد أخذ كل واحد منهم طريقة فى الحياة ، ولكن هذا الرجل لا ينساهم ولا يسمح لهم أن ينسوه قد عز عن تتبعهم فى العلم فليتتبعهم فى غيره مما تمتلئ به الحياة ، يزورهم أن لم يزوروه ويلقاهم فى زيارتهم عند فلان أو فلان من أصحاب المنزلة والثراء .
8- ساكن الغرفة يتصل بالإمام وبخصومة وبالمحافظة :-
وقد خرج الأستاذ الإمام من الأزهر بسبب تلك المنحة السياسية المعروفة وإذا صاحبنا متصل بالأستاذ وشيعته متصل بخصوم الأستاذ الإمام وشيعتهم أيضآ وق أخذ الأزهر يضطرب وخلت السياسة فى ذلك الأضطراب وأختصمت فيه السلطتان وإذا صاحبا يتصل بالمضربين مشاركآ لهم فى الأضراب ويتصل بخصوم الأضراب مفشيآ لهم أسرار المضربين ويتكشف الأمر ذات يوم عن أن صاحبنا كان متصل بالمحافظة فتقطع الصلة قطعآ عنيفآ بينه وبين أصدقائه ويرد عن البيوت التى كان يسعى إليها ويستقبل فيها ويقبع فى غرفته فى تلك الربع قد خسر الناس جميعآ ولم يخسره أحد وقد قصرت به همته عن درجة الأزهر فهو ينفق حياته الخاملة وحيدآ يائسآ محتملآ خموله على مضض مكتسبآ عيشه فى مشقة .
9- موت صاحب الغرفة :-
ثم ينبئ المنبئ ذات يوم بانه قد مات ،أمات من علة؟ أمات من حسرة؟ أم مات من الحرمان؟ ولكن أصدقائه يسمعون النعى فلا يأخذهم وجوم ولا يمس نفوسهم حزن وإنما يتلون هذه الآية الكريمة التى نتلوها دائمآ حين ينعى إلينا الناس (إنا لله وإنا إليه راجعون)
الفصل السادس من قصة الأيام: إنتساب الصبى إلى الأزهر
عرض الأحداث :
1- تأثر الصبى بالربع :-
على هذا الربع أقبل الصبى ، وفى هذه البيئة عاش وأكبر الظن أن ما أكتسب فيهما من العلم بالحياة وشئونها والأحياء و أخلاقها لم يكن أقل خطرآ مما أكتسبه من بيئته الأزهرية من (العلم بالفقه والنحو والمنطق والتوحيد) .
2- الأستاذ الجديد للصبى وسماته :-
ولم يكد الصبى يستقر فى ربعه يومين أو ثلاثة حتى أسلمه أخوه إلى أستاذ كان قد ظفر بالدرجة أثناء الصيف وكان سيبدأ الدرس ويجلس مجلس الأستاذ من صغار التلاميذ لأول مرة فى حياته وكان قد بلغ الأربعين أو كاد يبلغها وكان معروفآ بالتفوق مشهورآ بالذكاء وقد غالب الحظ فغلبه وإن لم يكن أنتصاره على الحظ ملائمآ لحقه فى الفوز فقد ظفر بالدرجة الثانية وعد هذا أنتصار وقصر فى الدرجة الأولى وعد هذا ظلمآ وكان ذكاؤه مقصورآ على العلم فإذا تجاوزة إلى الحياة العلمية فقد كان إلى السذاجة أدنى منه إلى أى شئ آخر وكان يعرف بين أصدقائه الطلاب والعلماء بأنه محب لبعض لذاته المادية متهالك عليها يفرض عليه مزاجه ذلك ولا تفرضه عليه رذيلة أو فساد خلق مألوف وكان كثير الأكل قد شهر بأنه يتهالك على اللحم ولا يستطيع أن ينقطع عن أكله والإسراف فيه يومآ واحدآ وكان ذلك يكلفه عناء كثيرآ ، وكان إلى هذا غريب الصوت إذا تحدث كان صوته متهدجآ متكسرآ يقطع الحروف تقطيعآ ويتراكم مع ذلك بعضه فوق بعض ، وتنفرج شفتاه عن كلامه أكثر مما ينبغى ، فلا يكاد يسمعه المتحدث إليه حتى يضحك ، ولا يكاد يمضى فى الحديث معه حتى يقلد فتور صوته وتكسره وإنفراج الشفتين عنه ولم يكد يظفر بدرجة العالمية حتى أسرع إلى شارة العلماء فأتخذها ولبس الفرجية متعجلآ لبسها ولم يكن العلماء يتخذون هذه الشارة إلا بعد أن يبعد عهدهم بالدرجة وتعرف لهم فى العلم سابقة وقدمة وتيسر لهم حياتهم المادية شيئآ، ولكن صاحبنا أسرع إلى الفرجية فلبسها وأضحك منه أصحابه من الطلاب وأساتذته من الشيوخ وزادهم ضحكآ منه وتندرآ عليه أنه كان يلبس الفرجية ويمشى حافيآ فى نعليه إن صح هذا التعبير لا يتخذ الجوارب عجزآ منه عنها أو زهدآ منه فيها وكان إذا مشى فى الشارع تثاقل وتباطأ وأصطنع وقار العلماء وجلال العلم ، فإذا خطا عتبة الأزهر ذهب عنه وقاره وفارقته أناته ولم يمشى إلا مهرولآ.
3- كيف عرف الصبى أستاذه :-
وقد عرف الصبى رجليه قبل أن يسمع صوته فقد أقبل على مكان درسه لأول مرة مهرولآ كما تعود أن يمشى ، فعثر بالصبى وكاد يسقط من عثرته ومست رجلاه اللتان خشن جلدهما يد الصبى فكادت تقطع ، ثم مضى حتى جلس وأسند ظهره إلى العمود الذى تمنى أن يسند ظهره إليه معلمآ .
4- منهج الأستاذ فى التدريس :-
وكان كغيره من أقرانه فى ذلك الوقت بارعآ فى العلوم الأزهرية كل البراعة ساخطآ على طريقة تعليمها سخطآ شديدآ قد بلغت تعاليم الأستاذ الإمام قلبه فأثرت فيه ، ولكنها لم تصل إلى أعماقه فلم يكن مجددآ خالصآ ولا محافظآ خالصآ وإنما كان شيئآ بين ذلك وكان هذا يكفى لينظر الشيوخ إليه شزرآ وليلحظوه فى شئ من الريبة والإشفاق ولم يكد يبدأ درسه فى الأول فى الفقه حتى أعلن إلى تلاميذه أنه لن يقرأ لهم كتاب (مراقى الفلاح على نور الإيضاح) كما تعود الشيوخ أن يقرءوا للتلاميذ المبتدئين ، ولكنه سيعلمهم الفقه فى غير كتاب بمقدار بمقدار ما فى مراقى الفلاح فعليهم إذا أن يسمعوا منه ويفهموا عنه ، وأن يكتبوا ما يحتاجون إلى كتابه من المذكرات .
5- الصبى راض عن أستاذه :-
ثم أخذ فى درسه فكان قيمآ ممتعآ وسار هذه السيرة فى درس النحو ، فلم يقرأ التلاميذ (شرح الكفراوى) ولم يعلمهم الأوجه التسعة لقراءة (بسم الله الرحمن الرحيم) وإعرابها ، وأنما هييأهم للنحو تهيئة حسنة وعرفهم الكلمة والكلام والأسم والفعل والحرف فكان درسه ممتعآ أيضآ وسئل الصبى أثناء الشاى العصر عما سمع من أستاذه فى الفقه والنحو فلما أعاد على أخيه وأصحابه ما سمع رضيت الجماعة عن الشيخ وعن منهجه وأقرت طريقته فى التعليم وجعل الصبى يختلف إلى هذين الدرسين لا يتجاوزهما أيامآ لا يذكر عددها ولكنه كان يسأل نفسه متى ينتسب إلى الأزهر ويصبح طالبآ مقيدآ فى سجلاته فلم يكن فى هذه الأيام إلا صبيآ يستمع إلى هذين الدرسين أستماعآ منظمآ محتومآ ويستمع إلى درس الحديث الذى كان يلقى بعد صلاة الفجر لا لشئ إلا أنه كان ينتظر أن يفرغ أخوه من درس الأصول وأن يحين الوقت الذى فيه درس الفقه .
6- أمتحان الصبى فى القرآن :-
وقد أقبل اليوم المشهود فأبى الصبى بعد درس الفقه أن يذهب إلى الأمتحان فى حفظ القرآن توطئة لأنتسابه إلى الأزهر ولم يكن الصبى قد أنبئ بذلك من قبل ، فلم يتهيأ لهذا الأمتحان ولو قد أنبئ به لقرأ القرآن على نفسه مرة أو مرتين قبل ذلك اليوم ، ولكنه لم يفكر فى تلاوة القرآن منذ وصل إلى القاهرة فلما أنبئ أنه سيمتحن بعد ساعة خفق قلبه وجلآ وسعى إلى مكان الأمتحان فى (زاوية العميان) خائفأ أشد الخوف مضطرب النفس أشد الأضطراب ولكنه لم يكد يدنو من الممتحنين حتى ذهب عنه الوجل فجأة وامتلأ قلبة حسرة وألمآ وثارت فى نفسه خواطر لاذعة لم ينسها قط فقد أنتظر أن يفرغ الممتحنان من الطالب الذى كان أمامهما ، وإذا هو يسمع أحد الممتحنين يدعوه بهذه الجملة التى وقعت من أذنه ومن قلبه أسوأ وقع (أقبل يا أعمى) ولولا أن أخاه أخذ بذراعه فأنهضه فى غير رفق وقاده إلى الممتحنين فى غير كلام ، لما صدق أن هذه الدعوة قد سيقت إليه فقد كان تعود من أهله كثيرآ من الرفق به وتجنبآ لذكر هذه الآفة بمحضره وكان يقدر ذلك وإن كان لم ينس قط أفته ولم يشغل قط عن ذكرها ومع ذلك فقد جلس أمام الممتحنين وطلب إليه أن يقرأ سورة الكهف ، فلم يكد يمضى فى الآيات الأولى منها حتى طلب إليه أن يقرأ سورة العنكبوت فلم يكد يمضى فى الآيات الأولى منها حتى قال له أحد الممتحنين (أنصرف يا أعمى ، فتح الله عليك) .
7- ضيق الصبى بالأمتحان والممتحنين رغم نجاحه :-
وقد دهش الصبى لهذا الأمتحان الذى لا يصور شيئآ ولا يدل على حفظ ، وقد كان ينتظر على الأقل تقدير أن تمنحه اللجنة على نحو ما كان يمتحنه أبوه الشيخ ولكنه أنصرف راضيآ عن نجاحه ساخطآ على ممتحنيه ، محتقرآ لأمتحانهم .
8- دلالة السوار الجديد حول معصم الصبى :-
ولم يخرج من زاوية العميان قبل أن ىيعطف به أخوه على بعض أركانها فتلقاه هناك أحد الفراشين أو أحد المشدين بلغة ذلك الوقت فأخذ ذراعه اليمنى ، وأدار حول معصمه سوارآ من الخيط جمع طرفيه بقطعة مختومة من الرصاص وقال له أنصرف فتح الله عليك ، ولم يفهم الصبى لهذا السوار معنى ولكن أخاه أنبأه بأن هذا السوار سيظل حول معصمه أسبوعآ كاملآ حتى يمر أمام الطبيب الذى سيمتحن صحته ويقدر سنه ويطعمه التطعيم الواقى من الجدرى وقد كان الصبى خليقآ أن يبتهج بهذا السوار الجديد الذى كان يدل على أنه مرشح للأنتساب إلى الأزهر وقد جاز المرحلة الأولى من مراحله ، لولا أنه ظل مشغولآ عن السوار بدعوة الممتحنين له وصرفه إياه وأنفق أسبوعه كما تعود أن ينفق أيامه مستيقظآ على صوت عمى الحاج على ذاهبآ إلى الأزهر مع الفجر عائدآ منه بعد درس الفقه ثم ذاهبآ إلى الأزهر مع الظهر ، ثم راجعآ منه بعد درس النحو ثم مقيمآ فى مجلسه ذاك فنائمآ فى مجلسه ذاك فغاديآ على الأزهر حين يسمع نداء المؤذن بأن الصلاة خير من النوم
9- الأمتحان الطبى للصبى وإنتسابه للأزهر :-
جاء يوم الأمتحان الطبى فذهب إليه الصبى وفى نفسه شئ من الأشفاق أن يدعوه الطبيب كما دعاه الممتحن ولكن الطبيب لم يدعه لأنه لم يكن يدعو أحدآ ، وإنما دفعه أخوه إلى الطبيب دفعآ فأخذ ذراعة وخط فيها خطوطآ وقال خمسة عشر وأنتهى الأمر عند هذا الحد وأصبح الصبى طالبآ منتسبآ إلى الأزهر ولم يكن قد بلغ ال التى ذكرها الطبيب والتى لم يكن بد منها لصحة الأنتساب ، وإنما كان ف الثالثة عشرة من عمره وقد حل السوار عن معصمه وعاد إلى غرفته وفى نفسه شك مؤلم لذيذ فى أمانة الممتحنين وفى صدق الطبيب.
الفصل السابع من قصة الأيام: قسوة الوحدة
عرض الأحداث:
1- الحياة الشاقة على الصبى وأخيه :-
وكانت هذه الحياة شاقة على الصبى وعلى أخيه معآ فأما الصبى فقد كان يستقل ما كان يقدم إليه من العلم ويتشوق إلى أن يشهد أكثر مما كان يشهد من الدروس ، ويبدأ أكثر مما كان قد بدأ من الفنون وكانت وحدته فى الغرفة بعد درس النحو قد ثقلت عليه حتى لم يكن يستطيع لها أحتمالآ وكان يود لو أستطاع الحركة أكثر مما كان يتحرك والكلام أكثر مما كان يتكلم وأما أخوه فقد ثقل عليه أضطراره إلى أن يقود الصبى إلى الأزهر وإلى البيت مصبحآ وممسيآ وثقل عليه أيضآ أن يترك الصبى وحده أكثر الوقت ، ولم يكن يستطيع أن يفعل غير هذا فلم يكن من الممكن ولا من الملائم لحياته ودرسه أن يهجر أصدقاءه ويتخلف عن دروسه ويقيم فى تلك الغرفة ملازمآ للصبى مؤنسآ له .
2- الصبى لا يتحدث إلى أحد عن وحدته وقسوتها :-
ولم يتحدث الصبى بذات نفسه إلى أحد ولم يتحدث أخو الصبى إليه بذات نفسه أيضآ وأكبر الظن أنه تحدث بذلك إلى أصدقائه غير مرة ولكن المشكلة بلغت أقصاها ذات ليلة وأنتهت إلى الحل بعد ذلك دون أن يقول الصبى لأخيه شآ أو أن قول له أخوه شئ دعيت الجماعة ذات يوم إلى أن تسمر عند صديق لها سورى لا يسكن الربع ولا يسكن الحى وقبلت الجماعة دعوة الصديق ومضى اليوم كما تعودت الأيام أن تمضى وذهبت الجماعة إلى درس الأستاذ الإمام ثم عادت منه بعد صلاة العشاء ليتخفف كل واحد منها مما كان يحمل من محفظته وأوراقه .
3- سيطرة الحزن على الصبى :-
وهيأ الشيخ الفتى أخاه الصبى لنومه كما كان يفعل كل ليلة وإنصرف عنه بعد أن أطفأ المصباح كما كان ينصرف كل ليلة ولكنه لم يكد يبلغ الباب حتى كان الحزن قد غلب الصبى على نفسه فأجهش ببكاء كظمة ما أستطاع ولكنه وصل فى أكبر الظن إلى أذن الفتى فلم يغير رأيه ولم يصرفه عن سمره وإنما أغلق الباب ومضى فى وجهه وأرضى الصبى حاجة نفسه إلى البكاء ثم عاد إليه أطمئنانه شيئآ فشيئآ ومثل قصته التى كان يمثلها فى كل ليلة ، فلم يستسلم إلى النوم إلا بعد أن عاد أخوه ولكنه أصبح فإذا إخوه يقدم إليه بعد درس الفقه وبعد أن أفطر ألوانآ من الحلوى كان قد أشتراها له فى طريقه إلى العودة من سمره وقد فهم الصبى عن أخيه وفهم أخوه عنه فلم يقل أحدهما لصاحبه شيئآ .
4- أنقضاء عهد الوحدة القاسية :-
ومضى يوم ويوم آخر وأخذ الشيخ الفتى كتابآ من الحاج فيروز ففضه ونظر فيه ثم قال لأخيه وقد وضع يده على كتفه وقد أمتلأ صوته حنانآ ورفقآ لن تكون وحدك فى الغرفة منذ غد فسيحضر أبن خالتك طالبآ للعلم ، وستجد منه مؤنسآ ورفيقآ .
الفصل الثامن من قصة الأيام: فرحة الصبى
عرض الأحداث :
1- ذكريات الصبى مع أبن خالته :-
وكان أبن خالته هذا رفيق صباه ، وكان له صديقآ وعنده أتيرآ ، وكان كثيرآ ما يهبط من بلدته فى أعلى الأقاليم لزيارة الصبى فينفق معه الشهر او الأشهر يختلفان معآ إلى الكتاب فيلعبان وإلى المسجد فيصليان ثم يعودان مع الأصيل إلى البيت فيقرآن فى كتب القصص والسمر ، أو يمضيان فى ألوان من العبث أو يخرجان للنزهة عند شجيرات التوت التى تقوم على حافه الأبراهيمية وكانا كثيرآ ما أدارا بينهما ألوانآ من الامانى والأحلام وكانا قد تعاهدا على أن يذهبا معآ إلى القاهرة ويطلبى العلم معآ فى الأزهر ، وكثيرآ ما هبط أبن خالته من مدينته فى أعلى الأقليم فى آخر الصيف وقد أعطته أمه نقودآ وأعدت له زادآ وودعته على أنه سيذهب مع أبن خالته إلى القاهرة ليطلبا فيها العلم معآ ولكنه كان يشارك صديقه فى الأنتظار ثم فى الغضب ثم فى الحزن والبكاء لأن الأسرة رأت أو لأن الشيخ الفتى رأى أن الوقت لم يئن لذهابهم إلى القاهرة ثم كانا يفترقان ويعود الصديق إلى أمه محزونآ كئيبآ .
2- الصبى ينتظر أبن خالته :-
فلا غرابة فى أن يقع هذا الخبر من نفس الصبى موقعآ حسنآ ولا غرابة فى أن يقضى الصبى مساءه راضيآ مبتهجآ لا يفكر إلا فى غد وقد أقبل الليلوملأ الغرفة بظلمته ولكن الصبى لم يسمع للظلمة فى تلك الليلة صوتآ ولا حديثآ وأكبر الظن أن حشرات الغرفة قد لعبت كما كانت تفعل فى كل ليلة ولكن الصبى لم يسمع لها صوتآ ولم يحس لها حركة وقد أرق الصبى ليلته كلها ولكنه كان أرقآ فرحآ مبتهجآ فيه كثير من تعجل الوقت وأستبطاء الصبح وقد ذهب الصبى إلى درس الحديث فسمع صوت الشيخ وهو يتغنى بالسند والمتن ولكنه لم يلق إلى الشيخ بالآ ولم يفهم عنه شيئآ وذهب بعد ذلك إلى درس الفقه فأستمع له لأنه لم يجد فى ذلك بدآ فقد كان أخوة أوصى به الشيخ وكان الشيخ يحاوره ويناظره ويضطره إلى أن يسمع له ويفهم عنه ثم عاد الصبى إلى الغرفة فى الضحى فأنفق وقته هادئآ قلقآ هادئآ فى ظاهر الأمر فقد كان يكره كل الكره أن يظهر أن يظهر أخوه أو أصحابه على أن شيئآ من أمره قد تغير قليلآ أو كثيرآ وقلقآ فى دخيلة نفسه يتعجل الوقت ويستبطئ العصر الذى سيصل فيه القطار إلى محطة القاهرة .
3- أبن خاله الصبى يصل إلى الربع :-
وقد دعى المؤذن بصلاة العصر أخر الأمر ولم يبق بين الصبى وأبن خالته إلا هذا الوقت القصير الذى تقطع فيه عربة من عربات النقل هذه المسافة بين المحطة وبين الحى سالكة باب البحر فباب الشعرية منتهية إلى هذا الباب الذى ستنعطف نحوه فتمر بين دخان القهوة وقرقرة الشيشة وهاتان قدمان تضربآ أرض الربع لا يتردد الصبى فى معرفتهما وهذا أبن خالته يقبل فيلقى عليه سلامآ ضاحكآ ثم يعتنقان ضاحكين وهذا سائق الغربة يتبعة وقد حمل ما أرسلته الأسرة إلى الطالبين من الطرف والزاد ومن المحقق أن العشاء سيكون دسمآ هذه الليلة ، وأن الأصدقاء جميعآ سيشاركون فيه ,وأن الصبيين لن يخلوا لأنفسهما وأحاديثهما إلا حين يذهب القوم ليشهدوا درس الأستاذ الإمام .
4- تغير حياة الصبى :-
ولكن من المحقق أيضآ أن حياة الصبى قد تغيرت كلها منذ ذلك اليوم فذهبت عنع العزلة حتى رغب فيه أحيانآ وكثر عليه العلم حتى ضاق به أحيانآ أخرى .
الفصل التاسع من قصة الأيام: تغير حياة الصبى
عرض الأحداث :
1- الصبى يقضى أكثر يومه فى الأزهر حتى يعود إلى الربع :-
وأيسرما تغير من حياته المادية أنه هجر مجلسه من الغرفة على البساط القديم الذى بسط على الحصير البالى العتيق ، فلم يعرفه إلا حين يجلس للإفطار أو العشاء وحين كان يأوى إلى مضجعه حين يتقدم الليل وإنما كان يمضى يومه كله أو أكثره فى الأزهر وفيما حوله من المساجد التى كان يختلف فيها إلى بعض الدروس .
2- تعرفه الربع وشئون أهله :-
فإذا عاد إلى الربع لم يدخل الغرفة إلا ليتخفف من عباءته ثم يعود ليخرج منها ليجلس مع صاحبه على فراش ضيق من اللبد قد فرش أمامهما وأخذ أكثر الطريق إلى المارة فلم يخل لهم منه إلا موضع أقدام الرجل الواحد أو الرجلين وفى هذا المجلس كان الصبيان يلهوان بالحديث قليلآ وبالقراءة كثيرآ وقد يفزعان لما كان يجرى فى الطبقة السفلى من حركة وحديث يسمع أحدهما ويرى الأخر ويفسر لصاحبه ما لا يرى وكذلك عرف الصبى الربع أكثر مما كان يعرفه وعرف من شئون أهله أكثر مما كان يعرف وسمع من أحاديثهم أكثر مما كان يسمع عاش جهرة بعد أن كان يعيش سرآ ولكن حياته الخصبة الممتعة منذ أقبل عليه صديقه لكم تكن فى الغرفة ولا فى الربع وإنما كانت فى الأزهر نفسه فقد أستراح الصبى من درس الفجر وتلبث فى غرفته حتى يدنو درس الفقه .
3- خروج الصبى مع صديقه إلى الأزهر وخط سيرهم حتى الحسين :-
فإذا حان وقت الدرس خرج مع صاحبه إلى الأزهر ، فسلكا الطريق نفسه التى كان يسلكها مع أخيه ولكنهما يسلكان متحدثين بالجد مرة وبالهزل مرة أخرى وقد ينحرفان عن حارة الوطاويط تلك الحارة القذرة ، إلى شارع شارع خان جعفر ذلك النظيف ويخلصان على كل حال إلى شارع سيدنا الحسين والغريب أن الصبى أن الصبى تعود منذ أقبل صديقه عليه ألا يمر بمسجد سيدنا الحسين ولا يدخلة إلا قرأ الفاتحة عوده صديقه هذه العادة فدأب عليها وقد تقدمت بهالسن واختلفت عليه أطوار الحياة وما يذكر أنه مر بمسجد سيدنا الحسين إلا وقرأ فى نفسه هذه السورة الكريمة من سور القرآن .
4- كانا يأكلان طرائف الطعام والشراب فى أثناء سيرهما :-
وكان أخو الصبى قد خصص له ولصاحبه مقدار يسيرآ من النقد ثمنآ لإفطارهما على ان يأخذا بعد درس الفقه جراية الشيخ الفتى من رواق الحنفية وكانت أربعة أرغفة فيأكلان منها رغيفين إذا أفطرا ويحفظان منها رغيفين للعشاء ومع أن هذا المقدار الذى خصص لهما من النقد قد كان يسيرآ ضئيلآ لا يتجاوز القرش الواحد فى كل يوم فقد عرفا كيف يحتالان وكيف يقتصدان ليمتعا أنفسهما ببعض ما كانت نفوسهم تتوق إليه من طرائف الطعام والشراب وما يمنعهما أن يغدوا ذات صباح مع الطير فإذا تجاوزا ذلك الباب المقفل من فجوته الضيقة وأستدارا ليأخذا طريقهما نحو الأزهر وقفا عند بائع البليلة فأخذ كل منهما قدرآ من هذا الطعام الذى كانا يحبانه أشد الحب لكثرة ما آكلا منه فى الريف ولكثرة ما كان يوضع عليه من السكر الذى يختلط بحباته الغلاظ ويذوب فى مائه الشديدالحرارة جدآ فلا يكاد أن يسيغانه حتى يطرد عنهما بقية النوم فى جسميهما النشاط ويثير فى أفواههما وأجوافهما لذة كانا يقدرانها قدرها ويهيئهما تهيئة صالحة لدرس الفقه يسمعان لحديث الشيخ وقد عمرت بطونهما ورءوسهما معآ وما يمنعهما إذا كانا فى شارع سيدنا الحسين أن يعطفا على هذا البائع أو ذاك فيجلسا على مجلس ضيق من الخشب قد ألقى عليه حصير ضيق أحيانآ ولم يلق عليه شئ أحيانآ أخرى ولكنه كان وثيرآ على كل حال ، لأن الجلوس كان يصحبه أنتظار لذة كانا يحبانها ويقدرانها لذة هذا التين المرطب الذى يقدم إليهما فى إناء صغير فيلتهمانه التهامآ ثم يعبان فى مائه عبآ ثم يأكلان ما كان تحته من زبيب فى أناه وهدوء وما يمنعهما حين يعودان قبل العصر أو بعيده أن يجورا على ثمن العشاء فيقفآ عند بائع الهريسة أو بائع البسبوسة ويرضيا لذتهما البريئة إلى هذا النوع من الحلوى أو ذاك وليس على أفطارهما ولا عشائهما بأس .
5- الأفطار الشهى بالفول النابت ومرقته :-
فأما الأفطار فكان أمره يسيرآ جدآ زيارة لبائع من هؤلاء الباعة الذين كانوا يعرضون الفول النابت ومعهما رغيفهما وهما يدفعآ إلى هذا البائع مليمين ونصف مليم وقد أشتريا بنصف مليم حزمة أو حزمتين من كراث وهذا البائع يقبل عليهما بإناء ضخم عميق قد أمتلأ مرقآ وسبحت فيه حبات من الفول وألقى عليه قلقل من الزيت فهما يغمسان خبزهما فى المرق ويتصيدان ما تيسر من حب ويلتهمان ما تحمله يدهما اليسرى إلى أفواههما من الكراث ، وما يبلغان أخر الرغيف وأخر الكراث حتى يبلغا حظهما من الطعام وقد امتلأ حتى كادا يكتظان ولكن فى الأناء بقية من مرق فكان الصبى يستحى فى أن يجيب صاحبه إلى ما يعرض عليه من شرب هذا المرق وكان صاحبه يضحك منه ويرفع الإناء فيعب فيه حتى يرده إلى البائع نظيفآ فقد أفطرا ولم ينفقا أكثر من ثلاثة مليمات وقد غنما ما طعما قبل الدرس وما عليهما الأن إلا أن يعودا إلى الأزهر ليرضيا عقولهما بعد أن رضيت أجسامهما .
6- الحرص على حضور درس الفقه والنحو مع الشيخ المجدد والشيخ التقليدى :-
وكان الصبى قد حرص كل الحرص على أن يواظب على درس شيخه المجدد المحافظ فى الفقه والنحو طاعة لأخيه من جهة وإرضاء لنفسه من جهة أخرى ولكنه كان شديد الطمع فى أن فى أن يسمه لغير هذا الشيخ وأن يذوق غير هذين اللونين من ألوان العلم وقد أتيح له ذلك غير مشقة ولا جهد بفضل هذه الدروس التى فى الضحا بعد أن يفرغ الطلاب من إفطارهم وقد قرر الصديقان أن يحضرا شرح الكفراوى وكان يلقى فى الضحا من كل يوم يلقيه شيخ جديد ولكنه قديم جديد فى الدرجة قديم فى الصلة بالأزهر وقد تقدمت به السن وطال عليه الطلب حتى ظفر بدرجته وبدأ كما كان يبأ أمثاله بقرأة شرح الكفراوى وكان الصبى يسمع من شيخه الأول ومن أخيه وأصحابه عبثآ كثيرآ بشرح الكفراوى وسخطآ كثيرآ عليه فكان ذلك يغريه به ويرغب فيه وما هى إلا أن يحضر الدرس الأول ويسمع الأوجه التسعة فى قراءة بسم الله الرحمن الرحيم وإعرابها حتى يفتن بهذا اللون من العلم ويكلف به أشد الكلف وإذا هو يواظب مع صاحه فى دقة على هذا الدرس من دروس النحو ويواظب فى دقة أيضآ على درسه القديم وكان يرى أنه يتعلم النحو فى درسه القديم وأنه يلهو بالنحو فى درسه الجديد وكان يلهو فى درسة الجديد حقآ يلهو بهذا الأعراب المتصل الذى ألح فيه الشارح على المتن إلحاحآ شديدآ
7- ملامح شخصية شيخ النحو ومعاملته القاسية لطلابه :-
ويلهو خاصة بالشيخ الذى كان يقرأ متنه وشرحه ويفسر ما يقرأ فى صوت غريب مضحك حقآ لم يكن يقرأ وإنما كان يغنى ولم يكن غناؤه يصعد من صدره وإنما كان يهبط من رأسه وكان صوته قد جمع بين خصلتين متناضضتين فكان أصم مكظومآ وكان ممتدآ عريضآ وكان الشيخ على ذلك من أهل الصعيد أو قل من أقصى الصعيد وكان قد أحتفظ بلهجته الإقليمية ولم يغير منها شئ لا فى الكلام ولا فى القراءة ولا فى الغناء وكان الشيخ على هذا كله غليظ الطبع يقرأ فى عنف ويسأل الطلاب ويرد عليهم فى عنف كان سريع الغضب لا يكاد يسأل حتى يشتم فإن ألح عليه السائل لم يعفه من لكمة إن كان قريبآ منه ومن رمية بحذائه أن كان مجلسه بعيدآ ، وكان حذاء الشيخ غليظآ كصوته جافيآ كثيابه فلم يكن يتخذ العباءة وإنما كان يتخذ الدفية وكان حذاء الشيخ غليظآ جافيآ وكانت نعلة قد ملئت بالمسامير وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البلى ففكر فى الطلاب الذى كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء فى وجهه أو فيما يبدو من جسمه ومن أجل هذا أشفق الطلاب من سؤال الشيخ وخلوا بينه وبين القراءة والتفسير والتقرير والغناء ومن أجل ذلك لم يضع الشيخ وقته ولا وقت الطلاب وبدأ سنته الدراسية بشرح الكفراوى ولم تنته هذه السنة حتى كان قد أتم شرح الشيخ خال إلا كتابآ واحدآ وعلى حين لم يكن ذلك الشيخ المجدد المحافظ لم يكن قد تجاوز بطلابخ القليلين الأبواب الأولى من النحو .
8- أثر الشيوخ على حياة الصبى النحوية :-
وكان لهذا كله أثرة فى حياه الصبى النحوية إن صح هذا التعبير فقد قضى إجازة الصيف وعاد إلى القاهرة فلم ير شيخه المحافظ المجدد وإنما سلك طريق غيره من الأزهريين فحضر فى الفقه شرح الطائى على الكنز وحضر فى النحو حاشية العطار على شرح الأزهرية ولكن من الخير ألا نتعجل الحوادث وأن نبقى مع صاحبنا فى سنته الأولى ، كان إذن يفرغ من درس الضحا فينتقل إلى درس الظهر ثم يعود إلى غرفته فيقرأ مع صاحبه مطالعآ دروس غد كما كان يفعل أصحاب الجد من الطلاب أو متنقلأ بين كتب مختلفة يفهم عنها أو لا يفهم .
9- عشاء الصديقين مختلف حسبما يتبقى معهما من نقود :-
فإذا دعيت الشمس إلى غروبها أقبل الصديقان على عشائهما وكان يختلف رقة وغلظآ باختلاف مابقى لهما من نقد فإن كان قد بقى لهما نصف القرش قسماه نصفين فاشتريا بنصفه شيئآ من الحلوى الطحنية وبنصفة الأخر شيئآ من الجبن وقطعة من الحلاوة ويريان لهذا المزيج الغريب طعمآ لذيذ وإن كانت البليلة أو التين قد أسرفا عليهما فى نقدهما فلم يبقى لهما منه إلا ربع القرش إشتريا بما تبقى لهما شيئآ من الطحينة ثم صبا عليها شيئآ من عسل أسود أو أبيض كان يأتيهما من الريف ثم أقبلا على عشاء ليس بالفخم ولكنه لا بأس به فإن جارت البليلة أو التين أو كلاهما على نقدهما فلم يبقيا منه شيئآ فليس عليهما من بأس لقد حفظا رغيفيهما وفى الغرفة هذه الصحفية أو تلك فى هذه العسل الأسو وفى تلك العسل الأبيض فليأخذا من هذا العسل شيئآ وليغمسا فيه رغيفهما فذك يجزئ عما كانا يجدان فى الحلاوة والجبن والطحينة من ترف وربما أباحا لأنفسهما على هذا البؤس شيئآ من ترف فغمسا رغيفيهما الأول وقد أقتسماه فى العسل الأسود ثم غمسا رغيفيهما الثانى وقد أقتسماه أيضآ فى العسل الأبيض .
10- حضور درس المنطق بعد صلاة المغرب كالكبار :-
وقد جعلت الشمس تسرع إلى غروبها وكاد المؤذن يصعد إلى مئذنته فاليسر الصديقان إذا إلى الأزهر فهما يحضران درسآ بعد صلاة المغرب كما يفعل هؤلاء الكبار هما يحضران درسآ فى المنطق يحضران متن السلم للأخضرى ومن الحق أنهما كانا يحضران هذا الدرس على شيخ كان يرى نفسه عالمآ وإن لم يعترف له الأزهر بالعالمية طال عليه الوقت وأشتدد إلحاحه فى طلب الدرجة فلم يظفر بها ولكنه لم ييئس منها ولم يرض بحكم الممتحنين فيه فجعل يطاولهم من جهة ويغيظهم من جهة أخرى ،يطاولهم بحضور الدرس والتقدم للأمتحان ويغيظهم بالجلوس إلى أحد الأعمدة إذا صليت المغرب ومن حوله جماعة من الطلاب وهو يقرأ لهم كتابآ فى المنطق كما يقرأ العلماء الممتازون فلم يكن يهجم على تعاليم المنطق إلا هؤلاء العلماء الممتازون .
11- شخصية شيخ المنطق وصفاته العلمية :-
ومن الحق أن هذا الطالب الشيخ لم يكن بارعآ فى العلم ولا ماهرآ فى التعليم وأن جهله وعجزه كانا يظهران حتى لهؤلاء التلاميذ المبتدئين ومن الحق أنه كان من أقصى الصعيد وكان محتفظآ بلهجته كما عرفها قلب أن يقبل إلى الأزهر ولم يكن يغير منها شيئآ فى قراءته وحديثه ومن الحق آخر الأمر أنه كان سريع الغضب شديد الحدة ولكنه لم يكن يشتم التلاميذ ولا يضربهم أو لم يكن يجرؤ على شتم التلاميذ أو ضربهم فما ينبغى ذلك إلا للعالم حقآ وصدقآ الذى نال الدرجة ونال معها الإذن الضمنى بشتم التلاميذ أو ضربهم كل هذا كان حقآ وكل هذا سمعه الصديقان من أولئك الطلاب الكبار ولكنه لم يمنعهما من حضور الدرس والمواظبة عليه ليقولا لأنفسما إنما يدرسان المنطق وليقولا لأنفسهما إنهما يذهبان إلى الأزهر بعد صلاة المغرب ويعودان منه بعد صلاة العشاء كما يفعل البطلاب الكبار المتقدمون .
12- أقلبت الأجازة والصبى يفكر فى البقاء فى القاهرة :-
وما أسرع ما ،نقضت السنة الأولى وما أسرع ما ختمت دروس الفقه والنحو وما أسرع ما دعى التلاميذ إلى التفرق ثن إلى الرحيل ثم ينفقون الصيف بين أهلهم فى المدن والقرى وما أشد ما كان الصبى يتشوق إلى هذه الأجازة ويتحرق حنينآ إلى الريف ولكن الأجازة قد أقبلت وإذا هو يريد أن يمتنع عن الرحيل وأن يبقى فى القاهرة أكان صادقآ فى هذا التمنع أمكان متكلفآ له كان صادقآ وكان متكلفآ معآ ، كان صادقآ لأنه أحب القاهرة وكلف بها وشق عليه فراقها وقد كره الرحيل دائمآ وكان متكلفآ فقد كان أخوه يقضى أكثر أجازاته فى القاهرة فكانت الأسرة تكبر منه ذلك وتراه آية جد وأجتهد وكان يريد أن يصنع صنع أخيه وأن يظن به ما كان يظن بأخيه ولكن تمنعه لم يغن عنه شيئآ .
13- الصبى يذهب مع صاحبه إلى قريته فى الريف :-
وها هو ذا يركب مع صاحبه عربة من عربات النقل ومعهما ثيابهما وقد لفت فى حزمتين وقد بلغ المحطة وأخذت لهما تذكرتان ثم دفعتا إليهما ثم وضعا فر عربة مزدحمة من عربات الدرجة الثالثة ثم تحرك القطار ولم يكد يمضى قليلآ ويبلغ محطة بعد القاهرة حتى نسى الصديقان أزهرهما وقاهرتهما وربعهما ولم يذكروا إلا شيئآ واحدآ وهو الريف وما سيكون من لذة ونعيم .
الفصل العاشر من قصة الأيام: تمرد الصبى
عرض الأحداث:
1- وصول الصبى وأبن خالته دارهما وكانت كالعهد بها :-
وكانت العشاء قد صليت حين نزل الصبيان من القطار فلم يجدا فى المحطة أحدآ فأنكرا ذلك شيئآ ولكنهما وصلا إلى الدار ، فإذا كل شئ يجرى فيها كما كانت تجرى الأمور فى كل يوم قد فرغت الأسرة من عشائها منذ وقت طويل وأتم الشيخ صلاته ثم خرج كعادته فجلس مع أصحابه غير بعيد من الدار وتناوم الصبية وجعلت أختهم الصغرى تحملهم واحدآ واحدآ إلى مضاجعهم واضطجعت أم الصبى على فراش من اللبد يحي السماء تستريح والنوم يلم بها ثم يصرف عنها ومن حولها بناتها قد جلسن يتحدثن كعادتهن فى كل ليلة حتى يقضى الشيخ سمره القصير ثم يعود إلى الدار فتأوى الأسرة كلها إلى مضاجعها ويشمل الدار سكون وهدوء لا يقطعهما إلا تنابح الكلاب وتصايح اليكة فى داخل الدار وفى أطراف القرية فلما دخل الصبيان وجمت الأسرة لدخولهما ولم تكن قد أنبئت بعودتهما فلم تعد لهما عشاء خاصآ ولم تنتظرهما بالعشاء المألوف ولم ترسل أحدآ لتلقيهما عند نزولهما من القطار .
2- الأسرة تستقبل الصبى بفتور أحزنه :-
وكذلك أضيع على الصبى ما كان يدير فى نفسه من الأمانى وما كان يقدر من أنه سيستقبل كما كان أخوه الشيخ فى أبتهاج وحفاوةى وأستعداد عظيم على أن أمه نهضت وقبلته ونهضت إليه أخواته فضممنه إليهن وقدم إليه وإلى صاحبه عشاء كعشائهما فى القاهرة وأقبل الشيخ فأعطى أبنه يده ليقبلها ثم سأله عن أخيه فى القاهرة وأوت الأسرة كلها إلى مضاجعها ونام الصبى فى مضجعه القديم وهو يكتم فى صدره كثيرآ من الغيظ وكثيرآ من خيبة الأمل أيضآ .
3- أصبحت حياة الصبى فى القرية كما هى قبل ذهابه للأزهر :-
ومضت الحياة بعد ذلك فى الدار والقرية كما كانت تمضى قبل أن يذهب الصبى إلى القاهرة ويطلب العلم فى الأزهر ، وكأنه لم يذهب إلى القاهرة ولم يجلس إلى العلماء ولم يدرس الفقه والنحو والمنطق والحديث وإذا هو مضطر كما كان يضطر من قبل أن يلقى سيدنا بالتحية والإكرام ويقبل يده كما كان يفعل من قبل ويسمع منه كلامه الفارغ الكثير كما كان يسمعه من قبل وإذا هو مضطر إلى أن يذهب بين وقت وأخر إلى الكتاب لينفق الوقت وإذا التلاميذ يلقونه كما كانوا يلقونه قديمآ لا يكادون يشعرون بأنه غاب عنهم ولا يكادون يسألونه عما رأى أو سمع فى القاهرة ولو قد سألوه لخبرهم بالكثير وأكثر من هذا كله أنه لم يقبل أحد من أهل القرية على الدار ليسلم على الصبى الشيخ بعد أن عاد من إليها وقد غاب عنها سنه دراسية كاملة ، وإنما كان يلقاه منهم هذا الرجل أو ذاك فيلقى عليه السؤال فى فتور ها أنت ذا؟ أعدت من القاهرة؟كيف أنت؟ ثم يلقى عليه هذا السؤال الآخر معنيآ به رافعآ به صوته وكيف تركت أخاك الشيخ وقد أستقر إذن فى نفس الصبى أنه ما زال كما كان قبل رحلته إلى القاهرة قليل الخطر ضئيل الشأن لا يستحق عناية به ولا سؤالآ عنه فأذى ذلك غروره وقد كان غروره شديدآ وزاده ذلك إمعانآ فى الصمت وعكوفآ على نفسه وأنصرافآ إليها .
4- تمرد الصبى على والده وأهل قريته لتوسلهم بالأنبياء والأولياء :-
ولكنه لم يكد يمضى أيامآ بين أسرته واهل قريته حتى غير رأى الناس فيه ولفتهم لإليه لا لفت عطف ومودة ولكن لفت إنكار وإعراض وإزورار فقد أحتمال من اهل القرية ما كان يحتمل قديمآ يومآ ويومآ وأيامآ ولكنه لم يطق على ذلك صبرآ وإذا هو ينبو على ما كان يألف وينكر ما كان يعرف ويتمرد على ما كان يظهر لهم الإذعان والخضوع كان صادقآ فى ذلك أول الأمر فلما أحس بالإنكار والإزورار والمقاومة تكلف معاند وغلا فى الشذوذ ولو وقف الأمر عند هذا الحد لأستقامت الأمور ولكن صاحبنا سمع أباه يقرأ دلائل الخيرات كما كان يفعل دائمآ إذا فرغ من صلاة الصبح أو من صلاة العصر فرفع كتفيه وهز رأسه ثم ضحك ثم قال لإخواته إن قراءة الدلائل عبث لا غناء فيه فأما الصغار من إخوته وأخواته فلم يفهموا عنه ولم يلتفتوا إليه ، ولكن أخته الكبرى زجرته زجرآ عنيفآ ورفعت بهذا الزجر صوتها فسمعها الشيخ ولم يقطع قراءتة ولكنه مضى فيها حتى أتمها ثم أقبل على الصبى باسمآ يسأله ماذا كان يقول فأعاد الصبى قوله فلما سمعه الشيخ هز رأسه وضحك ضحكة صغيرة قال لأبنه فى إزدراء ما أنت وذاك هذا ما تعلمته فى الأزهر فغضب الصبى وقال لأبيه نعم وتعلمت أن كثيرآ ما تقرؤه فى هذا الكتاب حرام يضر ولا ينفع فما ينبغى ان يتوسل إنسان بالأنبياء ولا بالأولياء وما ينبغى أن يكون بين الله والناس واسطة وإنما هذا لون من الوثنية .
5- غضب والده منه وتهديده له :-
هنالك غضب الشيخ غضبآ شديدآ ولكن كظم غيظه وأحتفظ بأبتسامته وقال فأضحك الأسرة كلها إخرس قطع الله لسانك لا تعد هذا الكلام وأنى أقسم لئن فعلت لأمسكنك فى القرية ولأقطعنك عن الأزهر ولأجعلنك فقيهآ تقرأ القرآن فى المآتم والبيوت ثم إنصرف وتضاحكت الأسرة من حول الصبى ولكن هذه القصة على قسوتها الساخرة لم تزد صاحبنا إلا عنادآ وإصرارآ .
6- الوالد يسأل عن أخيه الأزهرى والصبى يجيبه أحيانآ فى دهاء :-
وقد نسيها الشيخ بعد ساعات وأقبل على عشائه ومن حولة أبناؤه وبناته كعادته وجعل يسأل الصبى عن الشيخ الفتى ماذا ىصنع فى القاهرة وماذا يقرأ من الكتب وعلى من يختلف من الأساتذة كان الشيخ يجد لذة عظيمة فى إلقاء هذه الأسئلة وفى الأستماع لأجوبتها ، كان يلقيها على أبنه الشيخ الفتى إذا عاد إلى القرية فيجيبه متكلفآ أول الأمر فإذا أعيدت أعرض الفتى عن أبيه وبخل عليه بالجواب ولم يكن أبوه ينكر ذلك منه جهرة ولكنه كان يتأذى به ويشكو منه لزوجته إذا خلا إليها ، فأما الصبى كان سمحآ طيعآ لا يعرض عن أبيه ولا يمتنع عن أجابته ولا يدركه السأم مهما تكرر الاسئلة ومهما يكن موضوعها وكان الشيخ من أجل ذلك يحب أن يسأله ويستمتع بالحديث إليه أثناء العشاء وأثناء الغداء ولعله كان يعيد على أصحابه بعض ما كان أبنه يقص عليه من زيارات الشيخ الفتى للأستاذ الإمام والشيخ بخيت ومن أعتراض الشيخ الفتى على أساتذته فى أثناء الدرس وإحراجه لهم وردهم عليه بالعنف والشتم والضرب أحيانآ وكان الصبى يشعر بلذة أبيه لهذه الأحاديث ورضاه عنها فيتزيد ويتكثر ويخترع منها ما لم يكن يحفظ ذلك فى نفسه ليقصه على أخيه عندما يعود إلى القاهرة وكان الشيخ بهذا كله سعيدآ وله مغتبطآ وعلى تجديده حريصآ فلما جلست الأسرة للعشاء فى تلك الليلة وجدد الشيخ أسئلته عن أبنه الفتى ماذا يصنع فى القاهرة وماذا يقرأ من الكتب قال الصبى فى دهاء وخبث وكيد انه يزور قبور الأولياء وينفق نهاره فى قراءة دلائل الخيرات ولم يكد الصبى ينطق بهذا الجواب حتى أغرقت الأسرة كلها فى ضحك شديد شرق له الصغار بما كان فى أفواههم من طعام وشراب وكان الشيخ نفسه أسرعهم إلى الضحك وأشدهم إغراقآ فيه .
7- نقد الصبى للتوسل بالأنبياء يخرج من الأسرة إلى القرية ومشايخها :-
وكذلك أستحال نقد الصبى لأبيه من قراءته للدلائل والأوراد موضوعآ للهو الأسرة وعبثها أعوامآ وأعوامآ والظريف ان هذا النقد كان يحفظ الشيخ حقآ ويؤذيه فى نفسه وفيما ورث من عادة وأعتقاد ولكن الشيخ على ذلك يدعو أبنه إلى هذا النقد ويغريه به ويجد فى هذا الألم لذة ومتاعآ ومهما يكن من شئ فإن شذوذ الصبى لم يلبث أن تجاوز الدار إلى مجلس الشيخ قريبآ منها وإلى دكان الشيخ محمد عبد الواحد وإلى المسجد حيث كان الشيخ محمد أبو أحمد رئيس الفقهاء فى المدينة يقرئ القرآن للصبية والشباب ويصلى بالناس فى أثتاء الأسبوع ويفقههم فى دينهم أحيانآ حيث كان الشيخ عطية رجل من التجار الذين طلبوا العلم فى الأزهر أعوامآ ثم عادوا إلى الريف فاشتغلوا بأمرو الدنيا ولم ينصرفوا عن أمور الدين يجلس للناس بعد صلاة العصر من حين إلى حين فيعظهم ويفقههم وربما قرأ لهم شيئآ من الحديث .
8- موقف شيوخ القرية من إنكار الصبى للتوسل :-
بل وصل شذوذ الصبى إلى المحكمة الشرعية فسمعه القاضى وسمعه خاصة ذلك الشيخ الذى كان يكتب للقاضى ويرى أنه أعلم من القاضى بالشرع وأفقة منه بالدين وأحق منه بالقضاء ، لولا أنه لم يظفر بهذة الورقة التى تسمى العالمية والتى تشترط لتولى منصب القضاء والتى تنال بالجد والأجتهاد قليلآ وبالحظ والتملق فى أكثر الأحيان تسامع هؤلاء الناس جميعآ بمقالات هذا الصبى وإنكاة لكثير مما يعرفون وإستهزائه بكرمات الأولياء وتحريمه التوسل بهم وبالأنبياء وقال بعضهم لبعض أن هذا الصبى ضال مضل ثم ذهب إلى القاهرة فسمع مقالات الشيخ محمد عبده الضارة وآراءة الفاسدة المفسدة ثم عاد بها إلى المدينة ليضلل الناس وربما سعى بعضهم إلى مجلس الشيخ وأصحابه قريبآ من الدار وطلبوا أن يريهم أبنه ذلك الشاذ الغريب فيقبل الشيخ هادئآ باسمآ حتى يدخل الدار فيجد أبنه آخذآ فى اللعب أو الحديث مع أخواته فيأخذه فى يدع فى رفق ويقوده إلى مجلسه فإذا سلم على القادمين أجلسه ثم أخذ بعض القادمين فى التحدث إليه رفيقآ أول الأمر فإذا أتصل الحديث ذهب الرفق وقام مقامه الحوار العنيف وكثيرآ ما كان محاور الصبى ينصرف غاضبآ متحرجآ يستغفر الله من الذنب العظيم ويستعيذ به من الشيطان الرجيم .
9- والد الصبى مسرور من حوار الصبى وجداله حول نقده:-
وكان الشيخ وأصحابه من الذين لم يدرسوا فى الأزهر ولم يتفقهوا فى الدين يرضون عن هذه الخصومات ويعجبون بها ويبتهجون لهذا الصراع الذى كانوا يشهدونه بين هذا الصبى الناشئ و هؤلاء الشيوخ الشيب وكان أبو الصبى أشدهم غبطة وسرورآ ومع أنه لم يصدق قط أن التوسل بالأولياء والأنبياء حرام ولم يطمئن قط إلى عجز الأولياء عن إحداث الكرامات ولم يسلسر قط أبنه فيما كان يقول من تلك المقالات فقد كان يحب ان يرى أبنه محاورآ مخاصمآ ظاهرآ على محاوريه ومخاصميه وكان يتعصب لأبنه تعصبآ شديدآ وكان يسمع ويحفظ ما كان الناس يتحدثون به ويخترعونه أحيانآ من أمر هذا الصبى الغريب ثم يعود مع الظهر أو مع المساء فيعيد ذلك كله على زوجته راضيآ حينآ وساخطآ حينآ أخر .
10- خروج الصبى من عزلته بعد أن شغل الناس بالتفكير فى نقده :-
وعلى كل حال فقد أنتقم الصبى لنفسه وخرج من عزلته وشغل الناس فى القرية والمدينه بالحديث عنه والتفكير فيه وتغير مكانه فى الأسرة مكانه المعنوى أن صح التعبير فلم يهمله أبوه ولم تعرض عنه أمه وأخواته ولم تقم الصلة بينهم وبينه على الرحمة والأشفاق بل على شئ أكثر وأكثر عند الصبى من الرحمة والأشفاق .
11- تغير موقف والده منه وموافقته على عودته للأزهر :-
وأنقطع ذلك النذير الذى سمعه الصبى فى أول الأجازة بأنه قد يبقى فى القرية ويقطع عن الأزهر فقيهآ يقرأ القرآن فى المآتم والبيوت آية ذلك أنه أصبح ذات يوم فنهض فى الفجر ونهضت الأسرة كلها مع الفجر أيضآ ورأى الصبى نفسه بين ذراعى أمه وهى تقبله وتذرف دموعآ صامته ثم رأى الصبى نفسه فى المحطة مع صاحبه وأبوه يجلسه فى القطار رفيقآ به ثم يعطيه يده ليقبلها ثم ينصرف عنه وهو يسأل الله أن يفتح عليه .
12- الفتى يعود إلى القاهرة وأخوه فى أنتظاره مرحبآ به :-
ورأى الصبى نفسه يعبث مع صاحبه أثناء السفر ثم رأى الصبى نفسه ينزل من القطار فى محطة القاهرة وإذا أخوه يتلقاه مبتسمآ له ثم يدعو حمالآ ليحمل ما كان معه من متاع قليل وزاد كثير فإذا تجاوز باب المحطة دعا عربة من عربات النقل فحمل عليها الزاد وصاحب أخيه ثم عربه أخرى من عربات الركوب فأجلس فيها أخاه رفيقآ به جلس عن يمينه وأعطى السائق عنوان الربع .
الفصل الحادى عشر من قصة الأيام: إقبال الصبى على الأدب
عرض الأحداث :
1-علم الشيخ الشنقيطى المنوع ورأيه الغريب فى صرف كلمة عمر :-
لم يكد الصبى يبلغ القاهرةويستفر فيها حتى سمع ذكر الأدب والأدباء كما سمع العلم والعلماء سمع حديث الأدب بين هؤلاء الطلاب الكبار حين كانوا يذكرون الشيخ الشنقطى رحمه الله وحماية الأستاذ الإمام له وبره به وقد وقع هذا الأسم الأجنبى من نفس الصبى موقعآ غريبآ وزاد موقعه غرابة ما كان الصبى يسمعه من أعاجيب الشيخ وأطواره الشاذة وآرائه التى كانت تضحك قومآ وتغضب قومآ أخرين كان أولئك الطلاب الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريبآ للشيخ الشنقيطى فى حفظ اللغة ورواية الحديث سندآ ومتنآ عن ظهر قلب وكانوا يتحدثون بحدته وسرعته إلى الغضب وأنطلاق لسانه بما لا يطاق من القول وكانوا يضربونه مثلآ لحدة المغاربة وكانوا يذكرون إقامته فى المدينة ورحلته إلى قسطنطينية وزيارته للأندلس وربما تناشدوا شعره فى بعض ذلك وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع فى مصر وفى أوروبا وأنه لا يقنع بهذه المكتبة وإنما ينفق أكثر وقته فى دار الكتب قارئآ أو ناسخآ ثم كانوا يذكرون بعد ذلك متضاحكين قصته الكبرى تلك التى شغلته بالناس وشغلت الناس به وعرضته لكثير من الشر والألم وهى رأيه فى أن عمر مصروف لا ممنوع من الصرف وكان الصبى يسمع حديث عمر هذا فلا يفهم منه شيئآ أول الأمر ولكنه لم يلبث أن فهمه فى وضوح حين تقدم فى درس النحو وعرف الصرف والممنوع من الصرف وكان أولئك الشباب يذكرون مناظرات الشيخ مع جماعات من علماء الأزهر فى صرف عمر هذا أو منعه من الصرف ويتحدثون ضاحكين بأن العلماء أجتمعوا للشيخ ذات يوم فى الأزهر يرأسهم شيخ الجامع فطالبوا إليه أن يعرض عليهم رأيه فى صرف عمر فقال الشيخ فى لهجته المغربية المتحضرة لا أعرض عليكم هذا الرأى حتى تجلسوا منى مجلس التلاميذ من الأستاذ فتردد الشيوخ ولكن واحدآ منهم ماكرآ ماهرآ نهض عن مجلسه وسعى حتى كان بين يدى الشيخ فجلس على الأرض متربعآ وأخذ الشيخ فى عرض رأيه فقال أنشد الخليل:
يأيها الزارى على عمر قد قلت فيع غير ما تعلم
قال الشيخ الجالس مجلس التلميذ بصوته الماكر النحيف لقد رأيت الخليل أمس فأنشدنى البيت على هذا النحو يأيها الزارى على عمر ولم يدعه الشيخ الشنقيطى يتم إنشاده وإنما قطع عليه الإنشاد محتدآ وهو يقول كذبت كذبت لقد مات الخليل منذ قرون طويلة فكيف يمكن لقاء الموتى وجعل بعد ذلك يشهد الشيوخ على تعمد صاحبهم للكذب وعلى جهله بالنحو والعروض وضحك القوم وتفرق المجلس دون أن يقضى فى أمر عمر أممنوع من الصرف كما يقول النحاة أم مصروف كما يقول هذا الشيخ الغريب وكان الصبى يسمع هذا الكلام فيحفظه ويجد فيه اللذ فيما فهم منه ويعجب بما لم يفهم .
2- حفظ الصبى معلقتى امرئ القيس وطرفة بن العبد :-
وكان الشيخ يقرأ لبعض الطلاب هذه القصائد التى تعرف بالمعلقات وكان أخو الصبى وبعض أصدقائه يسمعو هذا الدرس فى يوم الخميس أو فى يوم الجمعة من كل أسبوع وكانوا يعدون هذا الدرس كغيره من الدروس وكذلك سمع الصبى لأول مرة :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وما أسرع ما انصرف هؤلاء الطلاب الكبار عن هذا الدرس الذى يسيغوه ولكن أخا الصبى حاول أن يحفظ المعلقات فخفظ منها معلقة امرئ القيس ومعلقة مطرقة كان يردد الأبيات بصوت مرتفع والصبى يسمع فيحفظ وما يلبث أن أشرك الصبى معه فى الحفظ ولكنه لم يتجاوز هاتين المعلقتين وأنصرف إلى دروسه الأزهرية الأخرى وأستقرت المعلقتان فى نفس الصبى يحفظهما ولا يفهم منها إلا قليلآ .
3- إقبال الصبى على دروس الأدب والإنشاء ونهج البلاغة والمقامات :-
وكان هؤلاء الطلاب يتحدثون عن درس أخر كان يلقى فى الأزهر ليعلم الأزهريين صناعة الإنشاء وكان يلقبه شيخ سورى من خاصة الأستاذ الإمام وقد أختلف إليه هؤلاء الطلاب فإشتروا الدفاتر وكتبوا موضوعات الإنشاء ولكنهم عدلوا عنه بعد قليل كما عدلوا عن درس الشنقيطى وأقبل أخو الصبى ذات يوم ومعه مقامات الحريرى فجعل يحفظ بعضها رافعآ صوته بالقراءة والصبى يحفظ صامتآ ثم أشركه فى الحفظ كما أشركه فى حفظ المعلقات ومضيا فى ذلك حتى حفظا عشر مقامات ثم إنصرف الشيخ الفتى إلى الأصول والفقه والتوحيد كما إنصرف عن المعلقات ودرس الإنشاء وأقبل مرة أخرى ومعه كتاب ضخم يسمى نهج البلاغة فيه خطب الإمام على وقد شرحها الأستاذ الإمام نفسه فجعل يحفظ من هذه الخطب ويحفظ الصبى معه ثم أعرض عن هذا الكتاب كما أعرض عن غيره بعد أن حفظ الصبى طائفة من الخطب وصنع الشيخ الفتى هذا الصنيع نفسه بمقامات بديع الزمان الهمذانى .
4- بيت فى قصيدة أبى فراس يثير تفكير الصبى :-
ولم ينسى الصبى قط قصيدة أبى فراس :
أراك عصى الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهى عليك ولا أمر
فقد أقبل بها أخوه وقد طبعت مشطرة أو مخمسة شطرها أو خمسها بعض الأزهريين فجعل يقرأ فى هذه القصيدة ثم لم يلبث أن أعرض عن تشطير الأزهرى أو تخميسة وأخذ فى حفظ القصيدة نفسها مع أخيه وإنما ذكر الصبى هذه القصيدة لأنه صادف فى أثنائها بيتآ كان يقع فى أذنيه موقعآ غريبآ وهو قول أبى فراس :
بدوت وأهلى حاضرون لأننى أرى أن دارآ لست من أهل قفر
فقد قرأة الشيخ الفتى وأحفظه اخاه:( لأنى أرى أن دار الست من أهلها قفر) وكان الصبى يسأل نفسه عن معنى هذا البيت كما كان يرى غريبآ أن تأتى كلمة الست فى بيت من الشعر فلما تقدمت به السن وتقدمت به المعرفة أيضآ قرأ البيت على وجهه ففهمه وعرف ذلك أن كلمة الست ربما جاءت فى شعر المحدثين من العباسين ونثرهم أيضآ .
5- حفظ الصبى لألوان الأدب وإقباله على ديوان الحماسة :-
وكذلك أتصل صاحبنا بالأدب على هذا النحو المضطرب المختلط وجمع فى نفسه أطرافآ من هذا الخليط من الشعر والنثر ولكنه لم يقف عند شئ من ذلك ولم يفرغ له وإنما كان يحفظ منه ما يمر به حين تتاح له الفرصة ثم يمضى لشأنه وفى ذات يوم من أول العام الدراسى أقبل أولئك الشباب متحمسين أشد التحمس لدرس جديد يلقى فى الضحا ويلقى فى الرواق العباسى ويلقيه الشيخ سيد المرصفى فى الأدب وسموا ديوان الحماسة وكانوا قد فتنوا بهذا الدرس حين سمعوه فلم يعودوا إلى غرفاتهم حتى أشتروا هذا الديوان وأزمعوا أن يحضروا الدرس وأن يعنوا به وأن يحفظوا الديوان نفسه وأسرع أخو الصبى كعادته دائمآ فأشترى شرح التبريزى لديوان الحماسة وجلده تجليدآ ظريفآ وزين به دولابه ذاك وإن كان نظر فيه بين حين وحين وقد جعل أخو الصبى يحفظ ديوان الحماسة ويحفظه لأخيه وربما قرأ عليه شئ من شرح التبريزى وكان يقرؤه على نحو ما كان يقرأ كتب الفقه والأصول ويتفهمه على نحو ما يتفهم هذه الكتب وكان الصبى يحس أن هذا الكتاب لا ينبغى أن يقرأ على هذا النحو .
6- أسباب إنصراف الطلاب عن درس الأدب وشيخه المرصفى :-
ولكن أولئك الشباب لم يلبثوا أن أعرضوا عن هذا الدرس كما اعرضوا عن غيره من دروس الأدب لأنهم لم يروه جديدآ ولأنه لم يكن من الدروس الأساسية فى الأزهر ، وإنما كان درسآ إضافيآ من هذه الدروس التى أنشأها الأستاذ الإمام والتى تسمى دروس العلم الحديثة وكانت منها الجغرافيا والحساب والأدب ولأن الشيخ كان يسخر منهم فيسرف فى السخرية ويعبث بهم فيغلو فى العبث ساء ظنه بهم فرآهم غير مستعدين لهذا الدرس الذى يحتاج إلى الذوق ولا يحتمل الفنقلة وساء ظنهم به فرأوة غير متمكن من العلم الصيحي ولا بارعآ فيه وإنمات هو صاحب شعر ينشد وكلام يقال ونكت تضحك ثم لا يبقى منها شئ ، وكانوا مع ذلك حراصآ على أن يحضروا هذا الدرس لأن الأستاذ الإمام كان يحميه ولأن الشيخ كان مقربآ من الأستاذ الإمام ينتهز كل فرصة لينشئ فى مدحة قصيدة يرفعها إليه ثم يمليها على الطلاب ، ويأخذ بعضهم يحفظها على أنها من جيد الشعر ورائعة لأنها كانت فى مدح الأستاذ الإمام وقد بذلوا ما أستطاعوا من الجهد للمواظبة على هذا الدرس ولكنهم لم يطيقوا عليه صبرآ فإنصرفوا عنه وعادوا إلى شايهم يستمتعون به فى الضحا على مهل وأنقطع عن صاحبنا ذكر الأدب بعد أن حفظ من ديوان الحماسة جزءآ صالحى ثم أشيع ذات يوم ان الشيخ المرصفى سيخصص يومين من أيام الأسبوع لقراءة المفصل للزمخشرى فى النحو فسعى صاحبنا إلى هذا الدرس الجديدولم يسمع للشيخ مرة ومرة حتى أحبه وكلف به وحضر درس الأدب فى أيامه من الأسبوع ولزم الشيخ منذ ذلك الوقت .
7- قوة ذاكرة الحفظ عند الصبى :-
وكان الصبى قوى الذاكرة فكان لا يسمع من الشيخ كلمة إلا وحفظها ولا رأيآ إلا وعاه ولا تفسيرآ إلا قيده على نفسه وكثيرآ ما كان يعرض البيت وفيه كلمة قد مضى تفسيرها أو إشارة إلى قصة قد قصها الشيخ فيما قدم من دروسه فكان صاحبنا يعيد على الشيخ ما حفظ من قصصه وتفسيره وما قيد من آرائه وخواطره ونقده لصاحب الحماسة وشرحها وتصحيحى لرواية أبى تمام وإكماله للمقطوعات التى كان أبو تمام يرويها .
8- حب الصبى لدرس الأدب للمرصفى وحب شيخه له :-
وإذا الشيخ يحب الفتى ويكلف به ويوجه إليه الحديث أثناء الدرس ويدعوه إليع بعد الدرس فيصحبه إلى باب الأزهر ثم يدعوه فى أن يصحبه فى بعض الطريق وقد دعاه ذات يوم إلى أن يبعد معه فى السير حتى أنتهى الشيخ وتلميذه هذا وتلاميذ أخرون إلى قهوة فجلسوا فيها وكان هذا أول عهد الفتى بالقهوات وقد طال المجلس منذ أن صليت الظهر حتى دعا المؤذن إلى صلاة العصر ، وعاد الفتى سعيدآ مغتبطآ قوى الأمل شديد النشاط ولم يكن للشيخ حديث إلى تلاميذه إذا تجاوز درس الأدب إلا الأزهر وشيوخه وسء مناهج التعليم فيه وكان الشيخ قاسيآ إذا طرق هذا الموضوع كان نقده لاذعآ وتشنيعه على أساتذته وزملائه أليمآ حقآ ولكنه كان يجد من نفوس تلاميذه هوى وكان يؤثر فى نفس هذا الفتى خاصة أبلغ تأثير وأعمقه ، وإذا الفتى يؤثر هذا الدرس على غيره من الدروس شيئآ فشيئآ ويختص أثنين من التلاميذ المقربين إلى الشيخ بمودته ثم بوقته إذا هم يلتقون إذا كان الضحا فيسمعون للشيخ ثم يذهبون إلى دار الكتب فيقرءون فيها الأدب القديم ثم يعودون إلى الأزهر بعد العصر فيجلسون فى هذا الممر بين الإدارة والرواق العباسى يتحدثون عن شيخهم وعما قرءوا فى دار الكتب ويعبثون بشيوخهم الآخرين ويعبثون بالداخلين والخارجين من الشيوخ والطلاب فإذا صليت المغرب دخلوا الرواق العباسى فسمعوا درس الشيخ بخيت الذى كان يقرأ فى تفسير القرآن مكان الأستاذ الإمام بعد أن توفى .
9- كيفية تدريس الأدب وأثره فى النفوس :-
وما أعرف شيئآ يدفع النفوس ولا سيما النفوس الناشئة إلى الحرية والإسراف فيها أحيانآ كالأدب وكالأدب الذى يدرس على نحو ما كان الشيخ المرصفى يدرسه لتلاميذه حين كان يفسر لهم الحماسة أو يفسر لهم الكامل بعد ذلك نقد حر للشاعر أولآ وللراوى ثانيآ وللشرح بعد ذلك واللغوين على أختلافهم بعد أولئك وهؤلاء ثم أمتحان للذوق ورياضة له على تعرف باطن الجمال فى الشعر أو النثر فى المعنى جملة وتفصيلآ وفى الوزن والقافية وفى مكان الكلمة بين أخواتها ثم أختبار للذوق الحديث فى هذه البيئة التى كان يلقى فيها الدرس وموازنة بين غلظة الذوق الأزهرى ورقة الذوق القديم وبين كلال العقل الأزهرى ونفاذ العقل القديم وأنتهاء من هذا كله إلى تحطيم القيود الأزهرية جملة وإلى الثورة على الشيوخ فى علمهم وذوقهم وفى سيرتهم وأحاديثم بالحق فى كثير من الأحيان والإسرف والتجنى فى بعض الأحيان .
10- مجموعة الثلاثة من محبى الأدب وثورتهم على التقاليد القديمة :-
ومن أجل هذا لم يثبت حول الشيخ من تلاميذه اللذين كتروا أول الأمر إلا نفر قليل وأمتاز منهم هؤلاء الثلاثة خاصة فكونوا عصبة صغيرة ولكنها لم تلبث أن بعد صوتها فى الأزهر وتسامع بها الطلاب والشيوخ وتسامعوا خاصة بنقدها للأزهر وثورتها على التقاليد وبما كانت تنظم من الشعر فى هجاء الشيوخ والطلاب وإذا هى بغيضة إلى الأزهريين مهيبة منهم فى وقت واحد .
11- الشيخ المرصفى أديب وعالم ومثل أعلى :-
ولم يكن الشيخ أستاذآ فحسب ولكنه كان أديبآ أيضآ ومعنى ذلك أنه كان يصطنع وقار العلماء إذا لقى الناس أو جلس للتعليم فى الازهر فإذا خلا غلى أصدقائه وخاصته عاش معهم عيشة الأديب فتحدث فى حريةمطلقة عن كل إنسان وعن كل موضوع وروى لخاصته من شعر القدماء ونثرهم وسيرتهم ما يثبت أنهم كانوا أحرارآ مثله يقولون فى كل شئ وفى كل إنسان لا متنطعين ولا متحفظين كما كان يقول وكان أيسر شئ وأهونه أن يذهب الطلاب مذهب شيخهم ولا سيما إذا أحبوه وأكبروه ورأوا فيه المثل الأعلى للصبر على المكروه والرضا بالقليل والتعفف عما لا يليق بالعلماء وأصحاب السلطان .
12- أستقباله لتلاميذه فى منزله المتواضع :-
كان تلاميذ الشيخ يرون منه ذلك رأى العين ويلمسونه بأيديهم ويعيشون معه فى حين كانوا يزورونه فى منزله ذلك المتهدم الخرب القديم فى حارة قذرة من حارات باب البحر يقال لها الركراكى هناك فى أقصى هذه الحارة كان يسكن الشيخ بيتآ قذرآ متهدمآ تدخل فيه من بابه فإذا انت فى ممر ضيق رطب تنبعث فيه روائح كريهة قد خلا من كل شئ إلا هذه الدكة الخشبية الضيقة الطويلة العارية التى قد أسندت إلى حائط يتساقط منه التراب وكان الشيخ ينزل إلى تلاميذه فيجلس معهم على هذه الدكة ولكنه يجلس راضيآ مطمئنآ يسمع لهم باسمآ ويتحث لهم أرق الحديث وأعذبه وأصفاه وأبرأه من التكلف وربما كان مشغولآ حين يقبل تلاميذه لزيارتها فيدعوهم إلى غرفته فيصعدون إليه فى سلم متهدم ويسلكون إليه دهليزآ خاليآ من كل شئ قد انتشر فيه ضوء الشمس حتى إذا بلغوا غرفته دخلوا على شيخ منحن قد جلس على الأرض ومن حوله عشرات الكتب يبحث فيهم عن مقطوعة يريد أن يتمها أو بيت يريد أن يفسره أو لفظ يريد أن يحققه أو حديث يريد أن يصحح الرأى فيه وعن يمينه أدوات القهوة فإذا دخلوا عليه لم يقم لهم وإنما تلقاهم مستبشرآ فرحآ ثم دعاهم إلى الجلوس حيث يستطيعون ودعا أحدهم إلى صنع القهوة وإدارتها عليه وعليهم ثم تحدث إيهم لحظات ثم دعاهم إلى أن يشاركوه فيما كان بسبيله من بحث أو تحقيق .
13- الشيخ المرصفى يطعم أمه بيده :-
ولم ينس الفتى وأحد صديقيه أنهما زارا الشيخ ذات يوم حين صليت العصر لما صعدا إليه لقيا شيخآ قد جلس على فراش متواضع إلقى فى هذا الدهليز وإلى جانبه امرأة محطمة قد انحنت حتى كاد رأسها يبلغ الأرض والشيخ يطعمها بيده فلما رأى تلميذيه هش لهما وأمرهما أن ينتظراه فى غرفته شيئآ ثم أقبل عليهم بعد حين وهو يقول ضاحكآ راضى النفس كنت أعشى أمى ، كان هذا الشيخ إذا خرج من داره صورة للوقار والدعة وأمن النفس وطمأنينة القلب وصفاء الضمير وكان صورة للغنى واليسار لا يحس من يتحدث إليه إلا رجلآ قد يسر عليه فى الرزق فهو يعيش عيشة أمن وهناءة وهدوء .
14- الشيخ المرصفى من أشد الناس فقرآ ولكنه راض سعيد :-
ولكن تلاميذه وخاصته كانوا يعلمون حق العلم أنه كان من أشد الناس فقرآ وأضيقهم يدآ وأنه كان ينفق الأسبوع أو الأسابيع لا يطعم إلا خبز الجراية يغمسه فى شئ من الملح ، وكان على ذلك يعلم أبنه تعليم ممتازآ ويرعى غيره من أبنائه الذين كانوا يطلبون العلم فى الأزهر رعاية حسنة ويدلل أبنته تدليلآ مؤثرآ يصنع هذا كله براتبه الضئيل الذى لم يكن يتجاوز ثلاثة جنيهات ونصف جنيه كان من أصحاب الدرجة الأولى فكان يتقاضى جنيهآ ونصف جنيه لذلك ، وكان الأستاذ الإمام قد كلفه درس الأدب فكان يتقاضى لذلك جنيهين وكان يستحى أن يقبض راتبه أول الشهر ويكره أن يختلط بالعلماء وهم يتهافتون على المباشر ليتقاضوا منه رواتبهم فكان يدفع خاتمه إلى تلميذ من خاصته ليقبض له هذا الراتب الضئيل فى الضحا ويؤديه إليه بعد الظهر .
15- إعجاب التلاميذ به ومشاركتهم حياته ونقدهم له :-
وكذلك كان يعيش هذا الشيخ وكان تلاميذه يرونه ويشاركونه فى حياته تلك البائسة الحرة الممتازة وكانوا يرون ويسمعون من أمر شيوخ أخرين ما كان يملأ قلوبهم غيظآ وحقدآ ونفوسهم ازدراء وأحتقار فأى غرابة فى أن يفتنوا بشيخهم ويتأثروه فى سيرته وفى مذهبه وفى ازدرائه للأزهرين وثورته بما كان لهم من تقاليد لم ينكر تلاميذ الشيخ عليه فى ذلك العهد إلا أنه إنحرف ذات يوم عن الوفاء للأستاذ الإمام حين تولى الشيخ الشربينى مشيخة الأزهر فنظم الشيخ قصيدة يمدح فيها الشيخ الجديد وكان تلميذآ للشيخ ومحبآ له وكان الشيخ الشربينى خليقآ بالحب والأعجاب وأملى الشيخ المرصفى على تلاميذه قصيدته التى سماها ثامنة المعلقات والتى عارض بها قصيدة طرفة فلما فرغ من إملائها والتف حوله تلاميذه مضى فى الثناء على أستاذه وعرض بالأستاذ الإمام شيئآ فرده بعض تلاميذه فى رفق فأرتد آسفآ خجلآ وأستغفر الله من خطيئته وكذلك أندفع هؤلاء التلاميذ فيما دفعهم إليه حبهم للشيخ وتأثرهم به فأسرفوا على أنفسهم وعلى شيخهم أيضآ .
16- إقبال الطلاب على دروس الأدب والشعر :-
لم يكتفوا بهذا العبث الذى كانوا يعبثونه بالشيوخ والطلاب ولكنهم يجهرون بقراءة الكتب القديمة وتفضيلها على كتب الأزهريه ويقرءون كتاب سيبوية أو كتاب المفصل فى النحو ويقرءون كتابى عبد القاهر الجرجانى فى البلاغة ويقرءون دواوين الشعراء ولا يتحرجون فى أختيار هذه الدواوين ولا فى الجهر بإنشاد ما فيها من شعر المجون أحيانآ فى الأزهر ويقلدون هذا الشعر ويتناشدون ما ينشئون من ذلك إذا التقوا والطلاب ينظرون إليهم شزرآ ويتربصون بهم الدوائر وينتهزون بهم الفرص وربما أقبل عليهم بعض الطلاب الناشئين يسمعون منهم ويتحدثون إليهم ويريدون أن يتعلموا منهم الشعر والأدب فيغيظ ذلك نظراءهم من الطلاب الكبار ويزيدهم موجدة عليهم وائتمارآ بهم .
17- أتهامات للصبى أمام شيخ الأزهر وكبار العلماء:-
وإن فتياننا الثلاثة لفى مجلسهم حول الشيخ عبد الحكم عطا وإذا هم يدعون إلى حجرة شيخ الجامع فيذهبون واجمين لا يفهمون شيئآ فإذا دخلوا على الشيخ حسونه لم يجدوه وحده وإنما وجدوا من حوله أعضاء مجلس إدارة الأزهر وهم من كبار العلماء فيهم الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين العدوى والشيخ راضى وآخرون ويلقاهم الشيخ متجهمآ ثم يامر رضوان رئيس المشدين أن يدعو من عنده من الطلاب فيقبل جماعة من الطلاب فيسألهم الشيخ عما عندهم ويتقدم أحدهم فيتهم هؤلاء الفتية بالكفر لمقالتهم فى الحجاج ثم يقص من أمرهم الأعاجيب .
18- الطلاب يشهدون على الصبى وصاحبيه مما يؤدى إلى محو أسمائهم من الأزهر :-
وكان هذا الطالب ماهرآ حقآ فقد أحصى على هؤلاء الفتيه كثيرآ جدآ مما كانوا يعيبون به الشيوخ ومما كانوا يعيبون به الشيخ بخيت والشيخ محمد حسنين والشيخ راضى والشيخ رفاعى وكانوا جميعآ حاضرين فسمعوا بآذانهم آراء الفتيه فيهم وشهد طلاب آخرون بصدق هذا الطالب فى كل ما قاله وسئل الفتيه فلم ينكروا مما سمعوا شيئآ ولكن الشيخ لم يحاورهم ولم يداورهم وإنما عدا إليه رضوان فأمره فى شدة بمحو أسماء هؤلاء الطلاب الثلاثة من الأزهر لأنه لا يريد مثل هذا الكلام الفارغ ثم صرفهم عنه فى عنف فخرجوا وجلين قد سقط فى أيديهم لا يعرفون ماذا يصنعون ولا كيف يصورون هذه القصة لأهلهم.
19- إلغاء درس الكامل الذى يلقيه الشيخ المرصفى :-
ولم يقف أمرهم عند هذا الحد ولا عند نظر الطلاب إليهم فى ضحك منهم وشماتة بهم ولكنهم أقبلوا بعد صلاة العشاء ليلقوا شيخهم المرصفى وليسمعوا منه درس الكامل وأقبل الشيخ فلقيه رضوان وأنبأه فى أدب ولطف بأن شيخ الجامع قد ألغى درس الكامل وبأنه ينتظره فى مكتبة إذا كان الغد .
20- أستعطاف الصبى وصاحبيه للشيخ بخيت مما أدى إلى مجادلته وغضبه :-
فأنصرف الشيخ محزونآ ومضى معه تلاميذه الثلاثة خجلين وجلين والشيخ يسرى عنهم مع ذلك حتى إذا كانوا فى بعض الطريق خطر لهم إن يذهبوا إلى الشيخ بخيت ليستعطفوه ويوسطوه عند شيخ الجامع وقال لهم شيخهم لا تفعلوا فلن تبلغوا من سعيكم هذا شيئآ ولكنهم مضوا مع ذلك إلى دار الشيخ بخيت فلما أدخلوا عليه عرفهم فتلقاهم ضاحكآ ثم سألهم عن جلية أمرهم فى فتور فلما أخذوا يدافعون عن أنفسهم قال لهم فى فتور أيضآ ولكنكم تدرسون الكامل للمبرد وقد كان المبرد من المعتزلة فدرس كتابه إثم وهنالك نسى الفتيه أنهم جاءوا مستعطفين وأخذوا يجادلون الشيخ حتى أحفظوه وإنصرفوا عنه حتى ملأه الغضب وملأهم اليأس ولكنهم مع ذلك تضاحكوا مع الشيخ وأعادوا بعض كلماته وتفرقوا وقد تعاهدوا على أن يخفوا الأمر على أهلهم حتى يقضى الله أمرآ كان مفعولآ ولقوا شيخهم من الغد فأنبأهم بأن الشيخ قد حظر عليه قراءة الكامل وكلفه قراءة المغنى لأبن هاشم ونقله من الرواق العباسى إلى داخل الأزهر .
21- هجوم على شيخ جامع الأزهر وخوف الشيوخ منه وحزن الفتى :-
ثم جعل الأستاذ يعبث بشيخ الجامع ويزعم لتلاميذه أنه لم يخلق للعلم ولا للمشيخة وإنما خلق لبيع العسل الأسود فى سرياقوس وكان قد فقد أسنانه فكان ينطق السين ثاء وكان يتكام لغة القاهرة فكان يجعل القاف همزة ويمد الواو بينها وبين السين وكان يتكلم هامسآ فلم ينسى تلاميذه قط هذه الجملة التى طبعوا بها الشيخ حسونه رحمه الله فسموه بائع الثل فى ثرياؤوث ولكن بائع سرياقوس هذا كان شديدآ حازمآ وكان مهيبآ صارمآ يخافه الشيوخ جميعآ ومنهم الشيخ المرصفى فقد أخذ كتاب المغنى وذهب إلى تلاميذه مطمئنين وما يعنيهم أن يقرأ الشيخ هذا الكتاب أو ذاك حسبهم أن يقرأ الشيخ وأن يسمعوا منه ويقولوا له وقد سمعوا منه فلما هم الفتى أن يقول له بعض الشئ أسكته فى رفق وهو يقول لأ لأ عاوزين ناكل عيش ولم يعرف الفتى أنه حزن منذ عرف الأزهر كما حزن حين سمع هذه الجملة من أستاذ فإنصرف عنه ومعه صديقاه وأن قلوبهم ليملؤها حزن عميق .
22- موقف الأصدقاء الثلاثة بعد محو أسمائهم من الأزهر :-
على أنهم لم يرضوا بهذه العقوبة التى فرضها عليهم شيخ الجامع وإنما فكروا فى الطريق التى يجب أن يسلكوها ليرفعوا عن أنفسهم هذا الظلم ، فأما أحدهم فقد أثر العافية وفارق صاحبيه وأتخذ لنفسه مجلسآ فى جامع المؤيد بمعزل من العدو والصديق حتى تهدأ العاصفة وأما الأخر فقص الأمر على على أبيه ، وجعل أبوه يسعى فى إصلاح شأن أبنه سعيآ رفيقآ ولكن الفتى لم يفارق صاحبه ولم يععتزل عدوآ ولا صديقآ وإنما كان يلقى صاحبه كل يوم فيتخذان مجلسهما بين الرواق العباسى والإدارة ويمضيان فيما تعودا أن يمضيا فيه من العبث بالطلاب والشيوخ .
23- مهاجمة الصبى الأزهر ومطالبته بالحرية :-
وأما صاحبنا فلم يحتج إلى أن يقص الأمر على أخيه فقد أنتهى الأمر إلى أخيه من طريق لا يعرفها ولكن أخاه لم يلمه ولم يعنف عليه وإنما قال له أنت وما تشاء فستجنى ثمرة هذا العبث وستجدها شديدة المرارة ولكن الفتى لم يكن يعرف رفقآ ولا لينآ فلم يسمع إلى أحد ولم يتوسل إلى الشيخ بأحد وإنما كتب مقالآ عنيفآ يهاجم فيه الأزهر كله وشيخ الأزهر خاصة ويطالب بحرية الرأى وماذا يمنعه من ذلك وكانت الجريدة قد ظهرت وكان مديرها يدعو كل يوم إلى حرية الرأى وذهب صاحبنا بمقاله إلى مدير الجريدة فتلقاه لقاء حسنآ فيه كثير من العطف والأشفاق وقرأ المقال ثم دفعه ضاحكآ إلى صديق له كان فى مجلسه يومئذ فألقى الصديق نظرة على هذا المقال ثم قال غاضبآ لو لم تكن قد عوقبت على ما جنيت من ذنب لكانت هذه المقالة وحدها كافية لعقابك وهم الفتى أن يرد على هذا الصديق ولكن مدير الجريدة قال له مترفقآ إن الذى يحدثك هو حسن بك صبرى مفتش العلوم الحديثة فى الأزهر ثم قال له أتريد أن تشتم الشيخ وتعيب الأزهر أم تريد أن يرفع عنك هذا العقاب بل أريد أن يرفع عنى هذا العقاب وأن أستمتع بحقى من الحرية قال مدير الجريدة فدع لى إذن هذه القصة وإنصرف راشدآ .
24- شيخ الأزهر كان يهدد الثلاثة فقط ولم يمح أسماءهم :-
وقد إنصرف الفتى ثم لم يلبث أن تبين وتبين معه صاحباه أن شيخ الجامع لم يعاقبهما ولم يمح أسماءهم من سجلات الأزهر وإنما أراد تخويفهم ليس غير ومنذ ذلك الوقت أتصل الفتى بمدير الجريدة وجعل يتردد عليه حتى جاء وقت كان يلقاه فيه كل يوم .
25- الصبى الشيخ يلبس الطربوش بعد العمامة :-
وفى مكتب مدير الجريدة ظفر الفتى بشئ طالما تمناه وهو أن يتصل ببيئة الطرابيش بعد أن سئم بيئة العمائم ولكنه اتصل ببيئة الطرابيش بأرقاها منزلة وأثراها ثراء وكان وهو فقير متوسط الحال جدًا إذ أقام فى القاهرة فأتاح له فى ذلك أن يفكر فيما يكون من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين .
كنتم مع تلخيص الجزء الثاني من قصة الأيام لطلاب الثانوية العامة